lundi 4 février 2013

العلمانية و الهوية والانتقال الديمقراطي


العلمانية و الهوية والانتقال الديمقراطي

جمال بندحمان ( جامعي من المغرب)

1. الثورات العربية: إعادة بناء الأسئلة

   منذ عقود والعالم العربي يواجه أسئلة تبحث عن المداخل الممكنة لتحقيق ديمقراطية لايهبها قائد كريم أوزعيم موهوب؛ ديمقراطية بعيدة عن تطبيقات شكلية رسختها أنظمة جبرية، و اعتبرتها جرعات متحكم فيها تمنح لشعوب قاصرة، خوفا عليها من تخمة هالكة. وقد ازدادت حدة هذه التساؤلات مع نجاح تجارب الانتقال الديمقراطي في دول أوربا الشرقية وبعض من دول أمريكا اللاتينية؛ مما أعاد العرب إلى مربع التساؤل الانفعالي لعصر النهضة: لماذا تقدم الآخرون وتخلفنا؟.

    ورغم أن صيغة السؤال قد أصبحت اليوم أكثر تخصيصا، فإن مقوماتها تشعبت لتتناول قضايا من قبيل: هل يمكن أن يحدث التغيير من الداخل أم من الضروري الاستقواء بالخارج مع ما يحمله ذلك من اتهامات وتشككات؟ وهل يمتلك العامل الداخلي القدرة على إحداث التغيير الديمقراطي مقارنة بالعامل الخارجي؟.  وهل يكفي الاعتماد على قاموس النقد للأنظمة العربية أم ينبغي البحث عن سبل أخرى أكثر واقعية وعمقا وإجرائية وفعالية؟. وإذا صحت هذه الاختيارات؛ فهل يمكن تغيير عمق التصورات ذاتها بتجاوز التصنيفات المانوية القائمة على أساس الانتماء المرجعي والهوياتي الضيق (اليسار- اليمين) ( الإسلاميون- العلمانيون ) ليصبح التصنيف قائما على : من الديمقراطي ومن غير الديمقراطي؟. وفي ظل كل ذلك، أي وضع للمواطنين في تدبير الشأن العام؟ وهل الإخفاقات التي تكررت منذ عقود ترجع إلى طرق اشتغال النخب السياسية والفكرية أكثر مما تعود إلى قوة الأنظمة ذاتها؟وأي موقع للديمقراطية الداخلية التي يفترض أن تكون آلية عمل الأحزاب والهيآت المدنية والمنظمات النقابية؟.

     والآن، وقد فجرت الثورات العربية مشاعر التغيير التي ظلت مقموعة وكامنة في الوجدان والعقل، وحولت الأحلام إلى إرادات فاعلة تكتسح دولا لم يكن أشد المتفائلين يتوقع أن يتحرك فيها المواطنون حاملين شعار (الشعب يريد....) . فهل بقي لمثل هذه الأسئلة المطردة موضع وجود أم إن صياغة معادلات جديدة هي التي ينبغي أن توجه التحليلات والاختيارت؟؛ إذ لم يعد لمفهوم انتقاد الأنظمة القوة الإجرائية ذاتها، ولم تعد التصنيفات الضيقة قادرة على حسم الاختيارات، فقد تحركت المجتمعات باعتبارها (كتلا تاريخية) ذات هدف محدد هو التغيير باسم الديمقراطية.

      لنلاحظ أن الشعار الأثير في كل الثورات العربية ابتدأ باسم ( الشعب)، وأنه ربط بفعل (الإرادة). ولعلها المرة الأولى في التاريخ العربي التي يكون فيها لهذا الشعار ذلك السحر الفعال الذي لم يقرن بهيئة ما، ولم يرفع من أجل شخص أوجهة، بل رفع من أجل قيمة القيم (الديمقراطية). وأن الفئات التي رفعته ابتعدت عن التصنيفات الإيديلوجية و الأحكام النمطية والنوعية التي كثيرا ما جرفت في طريقها أحلام التغيير؛لأن الحسابات الضيقة كانت توضع قبل الغايات المجتمعية . ولاشك أن شعار( الشعب يريد..) كان أكبر من مبدإ الانتماء المرجعي ( علماني – إسلامي – ليبرالي- اشتراكي.....) فعقود الجبر الطويلة جعلت مطلب الديمقراطية جزءا من مرتكزات العيش اليومي، لذلك كانت الساحات والميادين والشوارع تعج بالمجتمع؛ أي بالمواطن الحامل حلم التغيير باسم الديمقراطية. فما معنى ذلك؟

   إن معناه يتحدد بإعادة فحص المنخرطين في الحراك الذين وحدهم الهدف، ولم تخاصمهم المرجعيات ، وتحركوا باعتبارهم ( كتلة تاريخية ) تؤجل الصراع  المرجعي ولاتلغيه، وفي تأجيله درس كبير للقادمين أيضا. فالدرس المستفاد هو أن الأمة قادرة على مواجهة التسلط والاستبداد، لكنها تقبل بالاحتكام لقواعد الديمقراطية.

2.العلمانية أم الديمقراطية؟

    تثير المقابلة بين العلمانية والديمقراطية استغرابا لدى من لا يؤمن بالمعادلات ويشتغل بمنطق الثنائيات الحادة، لكنه من منظورنا تقابل له مسوغاته التي سنبسطها في الفقرات القادمة.

      من يستعيد النقاش الذي أطلقه رواد عصر النهضة سيسجل أن منطق ( إما.....وإما ) هو الذي وجه ذلك الحجاج بين مفكرين مثل محمد عبده وجمال الدين الأفغاني  وفرح أنطون والبستاني وسلامة موسى( [1] )... غير أن إعادة قراءة ما أنجزوه ينبغي أن يستحضر السياق الخاص المتمثل في ظروف القرن التاسع عشروما تلاه، ذلك أن هذه الظروف أفرزت اتجاهين؛ أحدهما دافع عن الاستقلال عن الأتراك ضمن وحدة عربية منشودة، واتجاه دافع عن الجامعة الإسلامية. وكان لابد أن يحدث التقابل الحاد بين تصورين متباينين؛ أحدهما يعتبر أن دخول المدنية لن يتحقق في غياب العلمانية، وثانيهما يعتبر أن الحل هو ديننا           ( أي الإسلام). نقرأ ذلك لدى الأفغاني مثلما نقرأه لدى البستاني أو فرح أنطون ومحمد عبده أو سلامة موسى. وستكون لهذه الاختيارات تبعات امتدت إلى فترة ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربي، خاصة في المشرق العربي بحكم التواجد المسيحي، حيث إن مبدأ حكم المواطنين المسيحيين  بدين الأغلبية سيجعل الهيمنة حاصلة بالضرورة ما لم يتم الاحتكام إلى آلية ناجعة تحتاج بدورها إلى تغيير الذهنيات والأحكام المسبقة . وهو ما سيقود إلى طرح إشكال كبير يتعلق ب (بشكل الدولة)، وهنا سيطرد الحديث عن الفصل بين السلطة السياسية والسلطة الدينية أو فصل الدين عن الدولة وهي العبارة غير المستساغة في المجال التداولي الإسلامي.                                                                                         

  هذا التذكيرالمختزل بمسار تبيئة مفهوم العلمانية عربيا سيسمح لنا بالقول إن الإشكال الأكبر لم يكن ، يوما، في مدلول المفهوم، بل كان في الدال أساسا. بمعنى آخر أن المشكل الأكبر كان دوما هو شكل الدولة، وكان أيضا هو التوظيف غير السليم للمفاهيم، مما قاد إلى خلق التباسات كبيرة. ذلك أن المتأمل للموضوع سينتهي إلى أن جوهر المطالب كانت دوما مرتبطة بالديمقراطية  وليس بشيئ آخر.                                                                

    لنقارب الموضوع من زاوية أخرى، وهي مناقشة مقومات الديمقراطية في علاقتها بمفهوم العلمانية مسنحضرين درس الجابري. يقول: ( مسألة العلمانية مسألة مزيفة لأن طبيعة المطالب مشروعة، لكن طريقة الصياغة ليست سليمة؛ فعوض الحديث عن مطلب العلمانية يفترض أن يكون المطلب مرتبطا بالديمقراطية والعقلانية )([2])

لكن لماذا سنقوم بذلك؟ يجيبنا الجابري ، وهو يستحضر تجربة الحكم في التاريخ الإسلامي، ( الديمقراطية تعني حفظ الحقوق: حقوق الأفراد وحقوق الجماعات، والعقلانية تعني الصدور في الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية ..... وليس عن الهوى والتعصب  وتقلبات المزاج) ([3] )

   الهوى والتعصب وتقلبات المزاج هي أدوات الحكم التي اعتمدت من قبل قوى الجبر والتسلط باسم هذه المرجعية أوتلك، لذلك فإن القبول بالديمقراطية سيجعل الحديث عن العلمانية تحصيل حاصل؛ لأن هذه الديمقراطية تتأسس على قواعد المساواة والإنصاف ومبادئ الحقوق والواجبات وقيم المواطنة ، وليس على أساس الاقتناعات المرجعية التي هي اختيارات فردية، وقد تكون جماعية أيضا. وهكذا، إذا كان جوهر العلمانية قائما على القبول بالتعددية الثقافية والعقائدية، فإن الديمقراطية أعلى قيمة من ذلك، وتحقق المطلوب وما يفوقه.

   نعم، إننا نقر بأن واقع العالم العربي أشد تعقيدا من التنظير له، لكننا جد مقتنعين بأن تصحيح مسار المفاهيم بمراعاة طبيعة هذا الواقع، وعدم استبعاد تجربته التاريخية، ومقوماته الثقافية سيسمح بخلق ( ذهنية ديمقراطية) . ذلك أن حصر الديمقراطية في الآليات يبخس قيمتها، فهي أولا وقبل كل شيئ ذهنية تجعل القبول بالآخر ،المختلف، حقا وواجبا، وتجعل التسامح السياسي والفكري والعقدي ممارسة ليست في حاجة إلى إقناع الآخرين بها. وإذا تحقق ذلك فمعناه أن العلمانية ستصبح من حواشي الديمقراطية.  

 

3.الكتلة التاريخية والذهنية الديمقراطية

   إن تحقيق الذهنية الديمقراطية رهين بمجهود بيداغوجي تستطيع كتلة تاريخية مشبعة بقيم الديمقراطية إنجازه. وقد كان المرحوم الجابري استشرافيا وهو ينظر لمفهوم الكتلة التاريخية([4])، هذا المفهوم القادم من عمق الفكر اليساري يعني أنه في لحظات تاريخية مفصلية يحدث  الإجماع الفكري بين جميع التيارات السياسية والطبقات والفئات والنخب حول قضايا وأهداف وطنية، اقتصادية واجتماعية وثقافية، سياسية وقومية، تفرضها الظروف الراهنة على الأمة ككل. حيث لايتعلق الأمر ببرنامج مرحلي لجبهة من القوى، بل بأهداف تاريخية يتطلب إنجازها قيام هذه  الكتلة التاريخية تضم أكثر ما يمكن من الشرائح والفصائل والنخب والمرجعيات، لأنها أهداف لا تستطيع أي طبقة أو أية فئة أو حزب أو جماعة القيام بها بمفردها. وإذا كنا ، اليوم، نستحضر الفكرة فإننا نعي اختلاف السياقات، لذلك سنذكر في مرحلة أولى بأهم مقوماتها، ثم نعمد في مرحلة ثانية على ربطها بسياق الثورات العربية في علاقتها بثنائية العلمانية والديمقراطية.

طرح  الجابري الفكرة  في البدء سنة 1982 بوصفها بديلا عن فكرة الطبقات التي يراد لها أن تقود النضال من أجل تحقيق التغيير في المجتمعات العربية. كما استحضرها مرة أخرى سنة 1987 في سياق حديثه عن إيران الثورة التي مارست نوعا من الإقصاء في حق المختلفين معها، فانتهى إلى أن القوى الإسلامية ترتكب مجسدة في إيران الخطأ نفسه الذي ارتكبه الوطنيون الليبيراليون والقوميون والماركسيون العرب، واقترح كمخرج من ذلك كتلة تمثل الواقع العربي كما هو وتأخذ بعين الاعتبار الكامل جميع مكوناته، "العصرية" منها و"التقليدية.

وقد كانت مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي فرصة للأستاذ الجابري لطرح الموضوع سنة 1993 من زاوية تراجع الإيديولوجيا اليسارية آنذاك، وتصاعد الحركات ذات المنزع الأصولي، فانتهى إلى أنه لا يمكن، في ظل تلك الوضعية لأي فصيل من فصائل القوى الوطنية القيام بمهام التحرر من التبعية وإقرار الديمقراطية وتحقيق تنمية مستقلة بمفرده، سواء أحمل إيديولوجيا سماها يسارا أم نطق باسم الدين ،أم بأي شيء آخر. وبالتالي فإن الحاجة تدعو،أكثر من أي وقت مضى، إلى تحالف وطني جديد على شكل كتلة تاريخية تضم جميع القوى الفاعلة في المجتمع، والتي من مصلحتها التغيير في اتجاه تحقيق الأهداف الوطنية، وعلى رأسها قيمة القيم ( الديمقراطية ). وما لم يتحقق ذلك فإن مآلات الثورات العربية قد تكون واقفة على جرف هار.

4.العلمانية والانتقال الديمقراطيُ

إذا كنا قد بينا في الفقرات السابقة علاقة العلمانية بالديمقراطية، فإننا نرغب، الأن، في مقاربة المفهوم في علاقته بالانتقال الديمقراطي. ذلك أن هذا المفهوم يتكرر في خطابات محترفي السياسة في العالم العربي، مثلما يتكررلدى الفاعلين المدنيين، ومحللي الخطاب وغيرهم. فما المقصود به؟

الانتقال الديمقراطي سيرورة وصيرورة من التحولات التي تعرفها  مجتمعات معينة هيمنت عليها لسنوات بيداء التسلط، حيث ترتكز هذه التحولات في  البحث عن أفق يجعل  الديمقراطية مدخلا لتدبير التعددية بمختلف أشكالها، وبما أن تجارب الانتقال الديمقراطي في العالم لم تقدم نموذجا واحدا، فمن حق العالم العربي أن يجتهد في صياغة نموذجه وفق طبيعة الأسئلة التي تواجهه، والتي تعد إشكالات الدمقرطة والعدالة الاجتماعية وإقرار قيم المواطنة ومبادئها من أهم أولوياتها، وضمن هذا الحيز يمكن البحث في وضع العلمانية،وهل هي مطلب ملح أم مطلب مفتعل ، سلبيات القول به أكبر من نفعها.

سندافع عن افتراضنا القائل بأن أولوية الأولويات بالنسبة للعالم العربي هي الديمقراطية، وأن الإفراط في الحديث عن العلمانية يعرقل تحقيق هذا المطلب. ولإبرازذلك سنعمل على تحديد قواعد عامة مشتركة تلازم حالات الانتقال الديمقراطي بهدف إبراز وضع الدين فيها ما دام الإشكال الملازم للحديث عن الديمقراطية هو علاقة السلطة الدينية بالسلطة السياسية ،أو ما اصطلحنا على تسميته بشكل الدولة .

تتميز مراحل الانتقال الديمقراطي  ب:

أولا: تتميز هذه المرحلة بطبيعتها الضبابية بحكم تعدد المطالب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. وفي مقابل هذه الضبابية تبرز الحاجة إلى التفاوض من أجل إنجاز تعاقدات مجتمعية، والتعاقد والتفاوض يقتضيات القيام بتنازلات مؤلمة تقوم على قاعدة الصرامة في المبادئ والمرونة في تصريفها، وهو ما سوغ لنا تبني فكرة الكتلة التاريخية الهادفة إلى ترسيخ قيم الذهنية الديمقراطية.

ثانيا: مرحلة فقدان الثقة في المؤسسات بحكم التراكمات السلبية للمرحلة السابقة، وهو أمر يقود إلى اللامبالاة، وفقدان هيبة الدولة، وشيوع النقد الحاد دون القدرة على طرح بدائل. بل إن التحليل السياسي يصبح هواية جماعية، وهو أمر إيجابي في منظوره العام الذي يجعل الشأن العام شأنا يوميا، لكن مخاطره تكمن في الاعتقاد بصحة الموقف الذاتي الذي يبني شرعيته على المعايشة، والمعاينة، والتشكك في التحليلات الأخرى مهما كانت وجاهتها. وقد قدمت تجربة جنوب إفريقيا في هذا المجال درسا مفيدا حيث كان للكنيسة دور كبير في ذلك، علما أنها مؤسسة يفترض ألا تتدخل في قضايا ذات طبيعة سياسية بالدرجة الأولى.([5])

ثالثا: مرحلة التدافع من أجل التموقع؛ مما يؤدي إلى تناسل الهيئات الحزبية والمنظمات المدنية، فعادة ما يكون هناك عطش ديمقراطي ناتج عن بيداء التسلط الطويل. غير أن التدافع قد يقود إلى هيمنة المنظور الإقصائي في حق الخصوم السياسيين أو أصحاب المرجعيات المخالفة. لذلك تكثر الاتهامات وتفض التحالفات، ويعاد تشكيل الانتماءات وفق منطق مرحلي وظرفي هاجسه التسابق على التموقع المؤسساتي والمجتمعي، وتتقوى شعارات الانغلاق على هويات ضيقة.

رابعا: مرحلة إعادة اكتشاف الذات؛ حيث تبرز القضايا التي ظلت مكتومة الصوت؛ مثل قضايا الهوية، وإشكالات إعادة بناء الذاكرة الجماعية، ووظيفة الدين في المجتمع، وفي الحياة السياسية.... لذلك ليس مستغربا أن يعاد طرح تساؤل من قبيل: من نحن؟. وبروز تجاذب حاد بين تصورات ذات أبعاد ثنائية مثل (الإسلامي والعلماني ) و(الدولة المدنية والدولة الدينية) و( الكوني والخصوصي)... ...وفي هذه الحالة يغيب إشكال المرحلة الأساس: من الديمقراطي ؟ ومن غير الديمقراطي؟.

خامسا: مرحلة بروز الآمال والطموحات الفردية والجماعية، وهو ما يعبر عنه بصيغة تساؤل انفعالي مؤداه:هل الديمقراطية قادرة على حل مشاكلنا(حالا)؟. وهي صيغة مغلوطة لأنها تشكك في القيمة ذاتها؛ أي تشكك في المبدإ ( الديمقراطية) ،وتعتبر الواقع شاهدا عليه. في حين أن المنطق يقتضي جعل المبدإ ( الديمقراطية ) شاهدة على الممارسة كي لايكون هناك أي شك في جدواه وفعاليته.

من كل ما سبق نخلص إلى أن مراحل الانتقال الديمقراطي تعرف إعادة طرح إشكالات مرتبطة بعنوان كبير هو الهوية، وإذا علمنا ما يواكب هذا المفهوم في عالمنا العربي من تداعيات استطعنا توقع ردود الأفعال وطرق المناقشة وتباين المواقف، وتوقعنا حضور المعطى الديني باعتباره ظاهرة روحية ونفسية واجتماعية .

5.العلمانية :الهوية والديمقراطية

    شكل مفهوم الهوية واحدا من أهم المفاهيم الحاضرة في خطابنا العربي المعاصر، وترتبت عنه مواقف وتصورات متباينة ومتعارضة بحكم اختلاف المرجعيات المؤطرة له. وإذا نحن أردنا اختزال هذه التصورات أمكننا تحديد إطارين عامين؛ يؤمن أولهما بالهوية المغلقة المفضية إلى القول بتشكيل نهائي لمعالمها وأسسها؛ مما يجعلها هوية إقصائية في بعدها العام. ويؤمن ثانيها بالهوية المنفتحة القابلة للاغتناء بما يقدمه الغير بغض النظر عن انتمائه الجغرافي أو العقدي أو اللغوي؛ وما بين التصورين حدة تبلغ أحيانا درجة الإلغاء المتبادل.                                                                                            

 تتولد عن هذا التصنيف مفاهيم لاتحصى، فالهوية المغلقة توصف بالتقليدية والمحافظة في درجاتها الدنيا، ويصل الوصف حدود النعت بالتطرف وإقصاء الآخر المختلف؛ لأنه لايندمج ضمن ماتم تحديده(سلفا).أما الهوية المنفتحة فإنها تبتدئ  بصفات الحداثة والعلمانية ، وتنتهي بقبول حق الآخرين في الاقتناع بما ارتضوه لأنفسهم. ورغم اعتباطية هذا التقسيم إلا أن جزءا كبيرا من صيغ الممارسة تؤكد سلامته، إذ تكاد التصورات تعتمد مرآة واحدة متكئة على منطق (إما.....وإما....). والواقع أن مساحة الفكر أرحب من هذا التضييق ، فالمجتمعات ذات الهوية المغلقة كثيرا ما تتلاشى ؛لأنها تغلق مداخلها ومخارجها، ولا تسمح لذاتها بالانتعاش والتجدد والتطور، مما يقودها بالضرورة إلى التطرف والغلو.              

   في مقابل ذلك، يبدو أنصار الهوية المنفتحة أكثراعتدالا؛ لأن مستندهم النظري  ينبني على ما شيدته ثقافة حقوق الإنسان، وفكر تدبير الاختلاف ومنطق التعددية.                 

   نعم إن الهوية المنفتحة اختيار حضاري ومنهجي وحقوقي، لكن الإقرار بذلك لايعني أننا ندافع عنه في صورته المطلقة التي تجعل المجتمعات متسيبة،وقابلة لدخول كل السلع والمنتجات مما يهددها بالتلاشي وضياع بوصلة تكامل مقوماتها. وإذا كانت هذه هي الجحة ذاتها التي يعتمدها أنصار الانغلاق بمسميات متعددة، فإنها كلام حق يراد به باطل؛ ووجه الباطل في ذلك أننا نخنق المجتمع بذريعة الحفاظ عليه، و نجعله ينمو بشكل غير طبيعي مادام يعتمد على خلية واحدة، وكائنات الخلية الواحدة هي أكثر الكائنات تخلفا على نحو ما تؤكد العلوم البيلوجية.                                                                          

    غير أن الإكراه الصعب الذي يواجه الأمة ،اليوم، يتمثل في عدم قدرتها على تقديم معالجات ناجعة لإشكال مزمن عالجه القدماء تحت عناوين عريضة ؛هي التوفيق بين الحكمة والشريعة وإشكال النقل والعقل،والقدم والحداثة. وطرحه رواد عصر النهضة تحت عنوان الأصالة والمعاصرة ، والسلفية والتجديد، وأخذ اليوم وجهات جغرافية مباشرة مثل الشرق والغرب، أو مفاهيمية مثل الهوية والعلمانية .... وإذا نحن راجعنا مادون منذ عصر النهضة سنجد أن الأمرقد تحول إلى قيد كبيريحد من انطلاق الطاقات وتحرير القدرات، بل إن المستغرب حقا هو أن درجات الانكماش والانغلاق ازدادت تفاقما في مقابل بروز خطاب هوياتي أخذ يرتدي لباس الهوية المنفتحة ليرسخ لصورة غير منفتحة. إنه الأمر الذي تعكسه مؤشرات خطابات تتكلم باسم أقلية تدعي التهميش والإقصاء، أو فئات  امتطت صهوة الخطاب الحقوقي لتدافع عن لغات اعتبرتها معبرة عن هوية مكتومة الصوت، أو أفراد دافعوا ويدافعون عن حقوق فئوية تؤسس لهويات جديدة مثلما هو الحال مع خطاب المدافعين عن الحريات الفردية والخاصة.                                                      

   هناك ،إذن، إشكال حقيقي يحتاج إلى معالجة حقيقية، فأنصار الهوية المغلقة يحكمون على المجتمعات بالتلاشي في الوقت الذي يبنون أطروحتهم على المحافظة عليها. وأنصار الهوية المنفتحة لاينظرون إلى الموضوع في بعده النسقي العام الذي يجعل لكل اختيار ثمنا، ومن بين هذه الأثمنة ما يمكن تسميته الهويات الحقوقية التي تستند إلى الخطاب الحقوقي من أجل التأسيس لمطالب يصعب رفضها حقوقيا، لكنها مرفوضة اجتماعيا، وبين الرفض الاجتماعي والديمقراطية تداخل قوي يجعلنا أمام تنازع بين قيمتين إحداهما حقوقية والثانية ديمقراطية، فلمن نعطي الأولوية؟.                                                             

   قد تعمل التشريعات التي يتم إقرارها بمبدإ التوازن حفاظا على سلامة النسيج المجتمعي، لكن هذا الإقرار ينبغي أن يقرن ببداغوجيا إصلاحية تجعل أصحاب المواقف يتعالون عن ذلك الخطاب الذي يدعي أصحابه أنهم يمتلكون الحقيقة، وأن هناك هوية أصيلة ، وأخرى وافدة ،وأن هناك العلمانية والسلفية، وأن الديمقراطية توأم الأولى، ونقيض الثانية.          

 فهذا الخطاب يتكلم باسم الحداثة والديمقراطية وتدبيرالاختلاف...لكن أصحابه  يستخدمون عبارات إقصائية ، ومعجما قدحيا ، ويمارسون أسلوب الحجاج المبتذل القائم على الطعن في الاختيارات والأشخاص، والتهجم الشخصي عوض مناقشة الأفكار في أفق الإقناع أو الاقتناع. فيكون خطابهم مناقضا لما ارتضوه مرجعية فكرية حداثية، لأنهم يؤسسون لثقافة الحقد والكراهية التي تخلق شرخا حادا  بين مكونات الأمة أو الوطن.

6. العلمانية: الدين والدولة

   إذا كان طرح العلاقة بين الدين والدولة غير مستغرب في حالات الانتقال الديمقراطي، سواء أكان هذا الانتقال حقيقيا أم مجازيا، فإن المستغرب هو اعتبار هذا النقاش مقحما أو مجتمعات عريقة في علمانيتها.                                                              

 يتعلق الأمر بالاتحاد الأوربي الذي عرف اختلافا كبيرا كان وضع الهوية الأوربية في عمقه، وكانت بؤرته مسيحية أوربا، وما ترتب عن ذلك من رفض اختيارات يدخلها أنصار العلمانية ضمن الحريات الفردية، ويعتبرها الآخرون قضايا أخلاقية ينبغي أن يكون حارسها الأول هو الدين. هكذا رفضت قضايا من قبيل الإجهاض، وتم الدفاع عن تدريس الدين في المؤسسات التعليمية....وبغض النظر عن مآلات دستور الاتحاد الأوربي فإن إعادة مناقشة وظيفة الدين وعلاقته بالسلطة السياسية وبالتشريعات يؤكد أن الأمر ليس بالحسم الذي يعتقده المدافعون عن علمانية متطرفة، وأنه ليس بالانغلاقية التي يعتقدها أنصار الهوية المحسومة،وأن المخرج يقتضي جعل قواعد العمل الديمقراطي حكما بين وجهات النظر المختلفة، وأنه حالما يتم ترسيخ الذهنية الديمقراطية، فإن حسم الاختيارت يصبح اختيارا مجتمعيا وتداوليا.                                                                               

المصدر: مجلة الآداب البيروتية- صيف 2012- السنة  60 –ص، ص 34-37.



[1] . من المفيد في هذا المقام مراجعة النقاش الذي دار بين مفكرين مثل محمد عبده وفرح أنطون، أو رسالة ( الرد على الدهريين) للأفغاني، أو كتابات سلامة موسى ...لأنها ستسمح لنا بإعادة استحضارلحظة التأسيس لمناقشة قضايا السلطتين الدينية والسياسية في العالم العربي، ومن خلال هذا الاستحضار فهم معوقات سوء الفهم الكبير الذي حصل في هذا المجال، والذي ما زالت تبعاته مستمرة، وكان أول ضحاياه الديمقراطية، وقد نذهب بعيدا فنعتبر أن أنصار العلمانية المتطرفة خدموا وقد يخدمون، من حيث لايدرون، الاستبداد لأنهم أعطوه تعليلات يدافع بها عن نفسه، ضمنا أومباشرة.
[2] .محمد عابد الجابري، الدين والدولة وتطبيق الشريعة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1996، ص 113.
[3] . نفسه
[4] . استعار الجابري مفهوم  الكتلة التاريخية من المفكر اليساري غرامشي وأعطاه بعدا آخر يرتبط بالواقع العربي، ونحن نعتقد أن قوة هذا المفهوم ليست في مضامينه، بل في إجراءاته، لذلك يمكن إعادة تكييفه بحسب طبيعة السياقات والظرفيات.
[5] . نحيل في هذا الصدد إلى ما قامت به شخصيات دينية مثل الأسقف دزموند توتو. راجع بهذا الخصوص كتاب:
سوزان كولن ماركس، مراقبة الريح : حل النزاعات خلال انتقال جنوب إفريقيا إلى الديمقراطية، ترجمة فؤاد سروجي، الأهلية للكتاب، عمان ، ط 1، 2004.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire