dimanche 10 octobre 2010

الديمقراطية وأنماط المشاركة في تدبير الشأن العام

الديمقراطية وأنماط المشاركة في تدبير الشأن العام
جمال بندحمان
تقديم
(لا ديمقراطية بدون مواطنة ولا مواطنة بدون ديمقراطية)،بهذه المعادلة يرسم آلان تورين طبيعة العلاقة التي تربط المواطنة بالديمقراطية،إذ هما وجهان لعملة واحدة . فالمواطنة باعتبارها حياة جماعية قائمة على روابط تشريعية وسياسية وثقافية وإنسانية، وإطارا تتحقق من خلاله الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية اللازمة لممارسة الحرية والمساواة والعدالة ،لايمكن أن تصبح فعالة وبناءة إلا بإعمالها ،وهذا الإعمال يتحقق عن طريق مشاركة كل فرد في تدبير شؤون مجتمعه وإقليمه وحيه بإبداء الرأي، والقيام بمبادرات تهدف إلى تحقيق المنفعة العامة ،والمشاركة باعتباره ناخبا أو مرشحا في اختيار نوع السلطة التي يجب أن يخضع لها المجتمع. .
تسمح المشاركة بثتبيت الديمقراطية،لذلك فإنها تحتاج إلى بناء اجتماعي مقترن بالحركات الجمعوية، والمبادرات الجماعية المؤطرة ،أو الفردية المسؤولة ،كما أنها سلوك وممارسة يتمظهران في المشاركة في الحياة العامة.
1. من المشاركة الامتيازية إلى حق المشاركة
قطعت البشرية مسارا طويلا من أجل تحويل المشاركة من امتياز يمنح للبعض إلى حق لكل مواطن بغض النظر عن نوعه أو عرقه أو وضعه الاجتماعي،فقد قامت مواطنة أثينا وروما على جعل صفة الأهلية القانونية حقا رجوليا ،وحرمت منه النساء ،بينما شكل عصر الأنوار مرحلة تحول بجعل المواطنة حقا إنسانيا يتمتع به الجميع على قدم المساواة ،وجعلته الثورة الفرنسية حقا قانونيا وسياسيا بإعلانها حقوق الإنسان والمواطن.فما المقصود بالمشاركة؟
يقصد بالمشاركة في الحياة العامة مساهمة الأفراد في تدبير شؤون مجتمعهم، وإبداء الرأي ،والقيام بمبادرات تهدف إلى تحقيق المنفعة محليا ووطنيا. ويندرج حق المشاركة ضمن الحريات السياسية ،غير أن مفهوم المشاركة يتجاوز كونها مجرد حق ،إذ هي ثقافة تقع على النقيض من ثقافة عدم الاكثرات واليأس والعزوف،مما يعني حاجة كل مجتمع إلى ترسيخها عن طريق التنشئة الديمقراطية القائمة على أسس التعبئة والتكوين المستمرين،ذلك أن قوة الديمقراطية تكمن في إرادة المواطنين للعمل المسؤول في الحياة العامة والمشاركة مع غيرهم في التدبير العمومي، واختيار من يمثلهم،وتقييم أدائهم ،وهذه العمليات مجتمعة هي التي حدت بالمنظرين للديمقراطية للحديث عن) الذهنية الديمقراطية( المقترنة بالتكوين والممارسة السليمة .
2 .المشاركة مشاركات
لاتقتصر المشاركة وضرورتها على مواطن محدد،إذ هي حق للجميع ،وواجب على الجميع،لكن المشاركة مشاركات تتنوع وتتعدد وتتكامل من خلال مجموعة من الإجراءات والسلوكات والممارسات التي تشكل ميدانا خصبا لتفعيل القدرات والمهارات والكفايات،فشاب اليوم هو الأب والمربي والمسؤول والقيادي غدا،وذهنيته الديمقراطية المنفتحة هي التي تسمح له بتحويل ممارسته للمشاركة الديمقراطية إلى نموذج يحتديه مجايلوه ،أو من سيرتبط بهم. فما مجالات المشاركة التي يمكنه المساهمة فيها؟
3 .المشاركة السياسية
قد تكون المشاركة السياسية الوجه الأبرز للمفهوم،ورغم أن الكثيرين يربطونها بالانتخابات ،فإنها أوسع من ذلك. صحيح أن الانتخابات هي الآلية التي تنظم العملية الديمقراطية، لكن هذه الآلية نتيجة لمشاركات كثيرة يساهم فيها الحزبي والجمعوي والمسؤول الحكومي،بل ويساهم في التهيئ لها كل مواطن من موقعه. لذلك فإن المشاركة مبدأ عام لا يرتبط بمناسبة معينة ،وهي جهد بداغوجي ونفسي وفعل مواطنة بامتياز. ذلك أن المشارك مواطن مقتنع بمبادئ سامية ؛منها التعايش وحق الاختلاف وتقبل النقد والتفاعل مع الغير، بغض النظر عن مرجعيته أو اقتناعاته الفكرية أو السياسية.
تمارس المشاركة السياسية بعدة وسائل لعل أقربها إلى الذهن المشاركة في اختيار من يمثل المواطن في الإطارات التشريعية أو الجماعات المحلية،أي مجمل الاستحقاقات الانتخابية التي تخضع لمنطق زمني يحدده القانون،غير أن هذه المشاركة تقترن بأخريات أهمها المشاركة في الحياة الحزبية التي يتم الانخراط فيها بناء على اقتناع بمبادئها ومرجعيتها، علما بأن واحدا من أهم أدوار الأحزاب السياسية هو تأطير المواطنين بكل ماتعنيه كلمة تأطير من تكوين وتعبئة وتحفيز على المشاركة في الحياة العامة ،بل إن المشاركة تبتدئ من الحزب ذاته ،فبقدر ما تزداد فعالية مشاركة أعضائه ،تزداد النجاعة وتتقوى الهياكل وتمارس الديمقراطية في أجلى صورها من مواكبة ومتابعة ومساهمة وانتقاد وفق ما تحدده القوانين الداخلية ،والمرجعيات الحقوقية العامة والكونية.
4 .المشاركة في الانتخابات
تضع الديمقراطية حرية الاختيار فوق كل اعتبار ،حيث يفوض المجتمع سلطته للطبقة السياسية لحظة الانتخابات عن طريق التصويت ،دون أن يعني ذلك منحها تفويضا مطلقا يقيد مواقفه ويشل حقوقه،إذ بإمكانه متابعة تنفيذ الالتزامات والعهود التي بمقتضاها اختار من يمثله ،مما يعني أن المشاركة فعل قبلي وبعدي،أي أنه يتحقق قبل الانتخابات، وأثناءها ،وبعدها. فقبل الانتخابات تتطلب المشاركة المساهمة في تأطير المواطنين ونتشئتهم ديمقراطيا،وتحفيزهم على التسجيل في اللوائح الانتخابية ومراجعتها، وتوعيتهم بكيفية ممارسة حقهم في التصويت باعتباره الضامن لسيادة الأمة ،وكيفية تسجيل الخروقات في حالة ملاحظتها .
أما أثناء الانتخابات فإن المشاركة السياسية تتطلب المساهمة في التعبئة عن طريق دعم المرشحين الذين يتم الاقتناع ببرنامجهم، أو الذين تتجاوب مرجعياتهم مع الاقتناعات الخاصة، والحرص على فتح حوار مع المواطنين من أجل إقناعهم بما يعتبره التوجه الأسلم، مع القبول بالنتائج التي يفرزها الاقتراع. بذلك تكون المشاركة فعلا إيجابيا ومسؤولا يمتد إلى مابعد الانتخابات من خلال تقييم الأداء الحزبي ، وتتبع أداء المنتخبين لبرامجهم ،ومساءلتهم ،وتقديم الاقتراحات خدمة للمصلحة العامة.
لاشك أن هذه المراحل مجتمعة هي التي تجعل المشاركة بناءة، وتجعل التأثير في السياسات العمومية فعالا، فأهمية لحظة الانتخابات، مثلا، لاتكمن في ذاتها، أو في نتائجها ،بل فيما ستضيفه من قيم ديمقراطية تعكس تشبع المواطن بقيم التعايش مع الآخرين والاعتراف بحقه في التواجد والمشاركة ضمن تصور منفتح يعتبر المصلحة العامة أسمى من الانتماء الحزبي أو الاقتناع الفكري.وأن النجاح الحقيقي هو ذلك الذي يتجلى في ممارسة ديمقراطية سليمة خالية من الشوائب والمعوقات.
5 . المشاركة في المجتمع المدني
يحق للمواطن أن يشارك في الحياة العامة ،وأن ينتمي لما يعتبره إطارا مدنيا يتجاوب مع اقتناعاته. ذلك أن هيئات المجتمع المدني تتنوع بتنوع أهدافها ووسائل تحقيقها،فمنها من يختار منطق المرافعة،ومنها من يختار منطق التكوين، ومنها من يصنف نفسه في إطار تنموي،ومنها من يعتبر كل هذه العناصر مشكلة لهويته. وإلى جانب هذا التصنيف يمكن تحديد الجمعيات بحسب موضوع اهتمامها، فهناك جمعيات حقوق الإنسان، والمنظمات البيئية والنسائية والخيرية والشبابية والمهنية وجمعيات الأحياء، وغيرها.وهذا التنوع يعكس دينامية العمل الجمعوي ويبين أهميته في المجتمع ودوره التنموي والتأطيري، إذ يمكن من خلاله إنجاز عمليات التنشئة الاجتماعية والسياسية والتربوية التي تسمح للمواطن بمشاركة فعالة في الحياة العامة. والواقع أن دور الجمعيات أساسي في تحقيق التنمية الديمقراطية التي تعني تنمية قدرات المواطن وكفاياته بما يسمح له باتخاذ القرار والمشاركة فيه سواء في المجالات الخاصة أو العامة . وإذا كان هذا التعريف يرتكز على الدور التأطيري للعمل الجمعوي ،فإن تعريفا آخر يجعل التنمية حقا من حقوق المواطن لايجوز التصرف فيه ،وهو حق إنساني يسمح لكل شخص، ولكل الشعوب بالمشاركة والمساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ،وهو مفهوم مستمد من إعلان الحق في التنمية الصادر سنة 1986.
يمكننا اعتمادا على التحديدات السابقة تقديم مثالين لعلاقة الجمعيات بالمشاركة في الحياة العامة؛ يتعلق المثال الأول بجمعيات ذات اهتمام بقضايا تنموية وطنية تهم التأطير الحقوقي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي،ويتعلق المثال الثاني بجمعيات ذات اهتمام بقضايا محلية أبرز مظاهرها جمعيات الأحياء التي تختزل فضاء اشتغالها في رقعة جغرافية يتم التحكم في طبيعة مشاكلها وحاجاتها،وقرب العاملين فيها من المواطن ،وامتلاكهم للقدرات البداغوجية الأساسية التي تسمح بالتواصل الفعال.وتجد هذه الجمعيات مرجعياتها في خطاب مابعد حداثي يدافع عن ديمقراطية تشاركية ،وهي تقوم بأدوار تأطيرية نابعة من طبيعة المشاكل المطروحة ،ويمكنها أن تشكل محاورا جيدا للمنتخبين والسلطات بتهيئ المطالب ومتابعة تنفيذها، أو إنجاز الدراسات التي تشكل المرجع الأساس لكل راغب في التدخل في واحد من المجالات الاجتماعية أوالاقتصادية أو البيئية أو التربوية.
وإذا أردنا تلخيص الأدوار الأساسية التي يمكن أن تنجزها الجمعيات المحلية ،فإننا نختزلها في مبدأ المشاركة اليومية والمباشرة سواء من خلال قدراتها التعبوية المتمثلة في التمهير على حسن التدبير والتأهيل القانوني والاقتصادي والثقافي،أو من خلال توجهها المباشر إلى مواطن التوتر من أجل سد مشكل محدد وتجاوزها نقد الواقع إلى الفعل فيه، وامتلاكها القدرة التي تحويل الأزمة إلى دينامية ،واستثمار الخبرات المحلية.
5. الشباب والمشاركة في الحياة العامة
تعتبر المشاركة العامة حقا دستوريا وقانونينا فقد أكدت المادة 21من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على حق كل فرد في المشاركة في إدارة الشؤون العامة لبلاده بشكل مباشر أوعن طريق الاختيار الحر لممثليه،وأن لكل شخص الحقوق ذاتها التي لغيره في تقلد الوظائف العامة في البلاد ،وأن إرادة الشعب هي مصدر السلطات يعبر عنها بانتخابات نزيهة ودورية .غير أن هذه النصوص تبقى بدون فعالية مالم يتشبع المواطن بروح المشاركة وأهميتها بالنسبة لمجتمعه ولذاته،وهو ما يعني وجود الحاجة المستمرة للتنشئة الديمقراطية التي تقع مهمتها على عاتق الأحزاب وهيآت المجتمع المدني ومؤسسات الدولة ،وإذاكان هذا الأمر يهم المواطنين عموما، فإن فئة الشباب أكثر حضورا فيه لاعتبارا ت متعددة؛ أهمها أنه يمثل فئة واسعة من فئات المجتمع ،ويتميز بمواصفات معرفية وسكلوجية تجعله أكثر قدرة على طرح التساؤلات بجرأة مصحوبة بالرغبة في التطوير وتحقيق القيم النبيلة؛ مثل العدالة والمساواة والرفاه الاجتماعي والشغل ،إضافة إلى حافز تحقيق الطموح الذاتي المشروع بتجديد النخب ،وتعزيز قيم الديمقراطية والحداثة .
عندما ننقل هذا المستوى النظري إلى الممارسة الميدانية تفاجئنا أحكام كثيرة تتحدث عن العزوف عن مشاركة الشباب في الحياة العامة،وعدم اكثراته بها ،وهي أحكام تحتاج إلى تمحيص ومقاربة متعددة المجالات ،إذ كثيرا مايتم ربط هذا العزوف بنسبة المشاركة في الانتخابات،بينما الأسلم اعتبار الانتخابات محطة لعمل سابق تقوم به الأحزاب وهيأت المجتمع المدني ومؤسسات الدولة. ورغم ذلك يمكننا التعامل مع الظاهرة باعتبارها معطى تاريخي أفرزته عوامل معقدة ومركبة لم يعد اليوم ما يشفع للمتذرع بها أن يعتمدها حجة وبرهانا،فقد تم تخفيض سن المشاركة ،وتمت الدعوة إلى التنصيص على نسبة محددة للشباب في الأحزاب،وتم تسطير مذكرات وزارية تلزم المؤسسات التعليمية والجامعية بإشراك التلاميذ والطلبة في كل ما يتعلق بتدبير الحياة المدرسية أو المؤسسة الجامعية، وعيا من المشرع بأهمية مشاركة الشباب في اتخاذ القرار، وتحفيزه على ذلك ، إذ من المحال تصور نمو سليم ومطرد للسيرورة الديمقراطية في غياب مشاركة كمية ونوعية للمواطنين تعكس انشغالهم وحرصهم على الدفاع عنها ،لكن الحماس والطموح ينبغي أن يقرنا بوعي نقدي متشبع بمعرفة بقضايا المجتمع وخصوصياته،فلكي تكون المشاركة مجدية يفترض في صاحبها أن يكون مواكبا لحيوية المجتمع في ديناميته العامة، فقضايا المغرب، اليوم ،لم تعد هي نفسها تلك التي طرحت منذ فترة الاستقلال إلى أواخر التسعينيات، فداخل محيطنا العام هناك، اليوم، مناقشة لكل القضايا الحيوية؛ بدءا بموضوع المصالحة الوطنية ووضعية المرأة، والتعليم، والهوية، ودور الأحزاب، وكيفية تفعيل التنمية البشرية ،وغيرها من الأوراش التي تتطلب من المشارك في الحياة العامة مواكبة لها كي يعبر عن رأيه فيها من خلال القنوات التي يختارها ،والتي قد تكون رأيا مكتوبا في وسيلة إعلامية، أو مشاركة في ندوة ،أو الانخراط في عمل جمعوي ،أو حزبي دون أن يعني ذلك أنه مدعو إلى تبني كل ما يقدم له،ففي الكثير من الأحيان يكون الرأي المنتقد فعالا لأنه ينبه إلى العيوب والمزالق ،ويشكل قيمة مضافة لما يقدم أو ينجز،لذلك أكدنا أن مفهوم المشاركة أعم من حصرها في العملية الانتخابية رغم أهميتها وقيمتها الاعتبارية. ذلك أن الديمقراطية ممارسة يومية تتجلى في السلوك اليومي للمواطن،كما أنها مسار طويل ومركب تبرزه الممارسات الحزبية والجمعوية والحكومية عبر احترامها للإجرات القانونية، وتفعيلها لكثلة الحقوق،في إطار تفاعل مستمر بين الحق والواجب.
خاتمة

المشاركة في الحياة العامة حق وواجب،لذلك فإنها تقف على النقيض من المنطق الأحادي والاتجاه المغلق ،إنها ليست امتلاك كل شيء أو لاشيء،بل هي مسألة ترتبط بمدى قدرة المواطنين،وضمنهم الشباب،على ممارسة تأثيرهم على سير السياسة العامة وصانعي القرار للحصول على تطبيق أسلم لمبادئها، واقتناعهم أنه كلما زادت مساحة الديمقراطية ،تقلصت مساحة التطرف. ذلك أن الدروس المستفادة من المشاركة قد تكون أهم من المشاركة ذاتها، إذ بواسطتها ندرك أن الديمقراطية مشروع إجرائي وقيمي وثقافي يسمح بتنظيم الاختلاف داخل المجتمع وترشيده.ويعكس قدرة النظام على استيعاب ضغوط التدافع والتصارع والتنافس بين الأفكار والمؤسسات المختلفة بشكل سلمي ،ومعنى ذلك أن المشاركة تتحول من وسيلة إلى آلية لإنتاج الذهنية الديمقراطية وإشاعتها.
المداخلة التي قدمت المؤتمر الثاني للإصلاح والديمقراطية في العالم العربي، الدوحة،27،29ماي 2007

الشباب والانتقال الديمقراطي

الشباب المغربي والانتقال الديمقراطي
جمال بندحمان
 تقر الكثير من الدراسات بأهمية الشباب في كل عمليات التحول التي تعرفها المجتمعات، فسواء أتعلق الأمر بالتنمية الاقتصادية أم الاجتماعية أم التحول الديمقراطي فإن الكيفية التي يتم بها إدماج الشباب في الموضوع تعد حاسمة في تحديد مدى وجود إرادة حقيقية لتحقيق ذلك. والمغرب الذي أصبح مفهوم الانتقال الديمقراطي جزءا من قاموسه السياسي منذ تسعينيات القرن الماضي جعل الشباب جزءا من منظومة نقاشه العمومي، فقد أكد قانون الأحزاب على ضرورة تخصيص نسبة معينة للشباب، كما تم تخفيض سن التصويت إلى 18سنة بما يسمح للشباب بالمشاركة في كل العمليات الانتخابية الممكنة. وفي الإطار نفسه عرفت دينامية الاشتغال في قضايا الشباب أهمية لدى الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والباحثين وهيآت المجتمع المدني، لكن في مقابل هذا الإقرار بأهمية الشباب في كل انتقال ديمقراطي ووجود نصوص تشريعية تفسح المجال أمام المشاركة، نجد أحكاما عامة تؤكد عزوف الشباب عن المساهمة في كل الديناميات التي يعرفها المجتمع، غير أن هذه الأحكام كثيرا ما افتقدت إلى المرجعيات العلمية والدراسات الميدانية، مثل معرفة عدد الشباب المنخرطين في الأحزاب أو الجمعيات أو الذين شاركوا في الاستحقاقات الانتخابية. وأمام هذا الخصاص برزت خلال السنوات الأخيرة دينامية متعددة الأبعاد لاتكتفي بتقديم الأحكام بل تبحث في الأسباب وتحدد كيفيات إدماج الشباب في كل المقاربات التي تتوخى المساهمة في إنجاح الشروط الممكنة لتحصيل انتقال ديمقراطي حقيقي .
هكدا صدرت خلال الفترات الأخيرة تقارير ودراسات ميدانية وأنجزت برامج مدنية تحاول تحديد الأدوار التي يمكن أن يضطلع بها الشباب في سياق حديث عام عن انتقال ديمقراطي ممكن التحقق.فقد صدر تقرير رسمي أنجزه باحثون مغاربة مستقلون وتم تعميمه على نطاق واسع أطلق عليه : تقرير 50 سنة من التنمية البشرية بالمغرب و آفاق 2025 ، تناول قضايا التنمية بالمغرب زضمنها الحديث عن الشباب وأدواره الممكنة، فقد طرح التقرير تساؤلا عميقا هو: هل للمجتمع المغربي  ما يكفي من الثقة في شبابه لكي يستطيع أخد أوراش تنمية البلاد على عاتقه ؟ .
وفي جوابه، اعترف التقرير بالعجز الكبير الذي يسجله المغرب في التعامل مع قضايا شبابه انطلاقا من غياب  معرفة دقيقة بهذه الفئة، وصولا إلى القصور في عملية إدماج الشباب في كل العمليات التنموية،  كما أوصى التقرير بأن على المغرب أن يكون في انسجام مع شبيبته، وأن تتسم سياسة إدماجه بالشمولية وتعدد الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وفي إطار مغاير أشرفت جمعية منتدى المواطنة  على إنجاز برنامج الحوار الشبابي من أجل المغرب الممكن بتعاون مع وكالة التنمية الاجتماعية وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية بالمغرب، شارك فيه 1200شابا وشابة، واستمر سنة كاملة أفضت مناقشة ورشاتها إلى مجموعة من الخلاصات الأساسية المتعلقة بمدى مشاركة الشباب في القرار السياسي، وفي تفعيل الديمقراطية ورؤية الشباب الذاتية لكيفية المشاركة في صنع القرار السياسي والاقتصادي، حيث تم التأكيد على ربط  مستقبل المغرب بمدى انخراط الشباب في عملية التنمية. والملاحظ أن الخلاصات التي انتهى إليها الحوار الشبابي تقر بأن مسألة تشبيب الهيآت المدنية والسياسية والاقتصادية مسألة أساسية وهو ما يمثل إحدى المؤاخذات الأساسية على طبيعة المشهد الحزبي والجمعوي، وأن دعم وتأهيل قدرات الحركة الشبابية من خلال الدعم المالي والتكويني والتأطيري والمؤسساتي للمنظمات الشبابية هي العوامل التي يمكن أن تسهل عملية تنظيم الشباب وتأطيره سياسيا، واعتبرت مختلف الآراء الشبابية أن الخيار الديمقراطي وبناء المؤسسات الديمقراطية وترسيخ قيم المواطنة أمور حتمية لبناء المستقبل ونجاح الانتقال الديمقراطي، وأن انخراط الشباب في المسلسل الديمقراطي عبر ولوج المؤسسات والهيآت المنتخبة هو ما يمكن أن يعضد ويعمق فرص نجاح التجربة الديمقراطية.
  ومن ناحية ثانية أكدت خلاصات النقاش الوطني ضرورة تعميق الممارسة الديمقراطية داخل الأجهزة الحزبية و المدنية وفي الفضاءات العامة الأخرى. وألحت كثيرا على ضرورة وضع المزيد من الضمانات من أجل شفافية عمليات الاقتراع في المغرب ومحاربة استعمال المال في شراء الأصوات. وقد تبين من خلال رصد المواقف الشبابية وجود وعي سياسي ورغبة في الاندماج في مسلسل الانتقال الديمقراطي مع التوقف عند الحدود النظرية لذلك مما يعكس نوع التفكير المهيمن لدى الشباب والذي تطبعه في الكثير من المواقف نبرات التشكيك والتردد، ولعل ما يؤكد وجود وعي لدى الشباب بالقضايا الحيوية التي تهم وضع الانتقال الديمقراطي بالمغرب هو النتائج التي وصلت إليها دراسة جد حديثة أنجزها مجموعة من الباحثين حول القيم والممارسات الدينية في المغرب حيث خلصت إلى جملة من النتائج همت تعامل الشباب مع الصلاة والتعبد والإرث وكذا رأيهم في علاقة الدين والسياسة. وقد شملت الدراسة 1156 مواطنا، شكلت نسبة الرجال منهم 47.3 في المائة، والنساء52.7 في المائة، وبلغت نسبة الشباب أقل من 25 سنة 28.3 في المائة.     وقد اعتبرت نسبة 14 في المائة من الشباب أن الدين شأن فردي، وأكد  56،7 في المائة منهم أن شباب اليوم أكثر معرفة بالدين من جيل الشباب السابق، وأكدت الدراسة أن التوجه السياسي أو التدين المسيس يزداد كلما نزلنا في الفئة العمرية من الكبار إلى الشباب، أي أن الشباب المتدين أكثر اهتماما بالقضايا السياسية ، أي بجوهر ما يمكن أن يشكل دعامة أساسية لكل تحول ديمقراطي.
تؤكد العناصر السابقة أهمية إدماج الشباب في كل ما يهم تدبير الشأن السياسي والاقتصادي ضمانا لتحقيق انتقال ديمقراطي ناجح، وأن فتح النقاش العمومي في قضايا الشباب ينبغي أن يتم بلسانه وليس بالوكالة عنه.
       المرصد الديمقراطي، السنة الثالثة ، ع، الثاني ، أبريل 2008

الأمازيغية:شرعية الثقافي واختلالات السياسي

الأما زيغية: شرعية الثقافي واختلالات السياسي
جمال بندحمان


    يعرف المغرب منذ عقود نقاشات تطال قضايا التعدد اللغوي والثقافي كان أبرز وجوهها بروز تيار ثقافي أمازيغي ربط المطالب بقضايا خلافية مثل الهوية ومكوناتها وانتهى إلى المطالبة بجعل الأمازيغية لغة وطنية ورسمية في دستور تتم المطالبة بجعله ديمقراطيا، وقد ترتب عن ذلك تبني حركات مدنية وسياسية هذه المطالب، مما حول مسار موضوع الأمازيغية من الإطار الثقافي إلى السياسي. ورغم أن الدولة أبدت مرونة كبرى في التعامل مع الموضوع بمأسسة الإطار الثقافي المحتضن للثقافة الأمازيغية من خلال تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، فإن حدة المطالب تزداد اليوم بصورة راديكالية قد تكون لها انعكاسات سلبية ما لم تتم معالجة الموضوع برؤية ديمقراطية ضمن مشروع مجتمعي متكامل ومنفتح قائم على الحوار الذي يجعل الوطن سقفا للاختلاف الذي لاينبغي تجاوزه.
إن هذه الرؤية هي التي تحكم تصورنا للموضوع ومناقشتنا له انطلاقا من تحديد ثلاثة مداخل أساسية:
أولا: المدخل المنهجي
   نقصد به الصيغ المعتمدة في تفعيل مطلب دسترة الأمازيغية، والطرق التي تواكبه سواء من قبل الحركة الأمازيغية أو الجمعيات الحقوقية، والتي نسجل بصددها جملة ملاحظات:
1. لا يربط مطلب دسترة الأمازيغية بتصور منهجي شمولي مقترن بتصور مجتمعي متكامل أو بتعاقد جديد تتفاعل ضمنه مختلف المطالب الجزئية. كما أن منهجية المطالبة والتدبير في المجال اللغوي بالمغرب لا لاتحقق ما نصطلح عليه بالديمقراطية اللسانية. صورة ذلك أن المغرب يشتغل بأكثر من رأس تشريعي لغوي، فالدستور يتحدث عن رسمية اللغة العربية، والميثاق الوطني للتربية والتكوين تحدث عن تعدد لغوي، والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية شرع لاختيار حرف تيفناغ وكان قراره ملزما للمغاربة، ولم يخضع للمسار الذي ينبغي أن يتحرك ضمنه كل تشريع والذي يضمن له صفة التشريع الديمقراطي الذي لا يمنح اللجان و المعاهد الصفة التشريعية الملزمة.
2. تعتمد هذه الصيغ في العادة على التعبئة من أجل المطالب وتغيب التعبئة على الحلول، وهي منهجية لها مخاطرها لأنها تسمح بضياع بوصلة التحليل، و تغيب آلية التوافق والتفاوض بتبني اختيارات نهائية في مجال نسبي بامتياز. ذلك أن مجال الحقوق الثقافية واللغوية هومجال الشك التعريفي والمنهجي، ومجال النسبيات. ولذلك فإن شق هذه الحقوق هو الشق الوحيد من حقوق الإنسان الذي يتصدى لكل محاولات الإغلاق أو اليقينيات الثابتة.
ثانيا: المدخل المعرفي
   يعيش المغرب اليوم نقاشا حول قضايا مصيرية وجوهرية تهم مكانة الدين في المجتمع ووضع اللغة والثقافة والعدالة الاجتماعية، وتخليق الحياة العامة والمشروع التربوي المجتمعي، وغيرها من المواضيع التي تؤكد مناقشتها أن المبادئ والأسس التي قامت عليها منظومتنا المجتمعية والسياسية والثقافية لم تعد كافية، ولامقنعة، ولا موضوع إجماع وطني واسع. وأن الأطر الثقافية والرمزية التي عشناها أصبحت منهكة وفي حاجة إلى جرعات إنعاش، أو استبدال كلي حسب ما يمكن أن يقرره المغاربة، وليس فئة واحدة منهم.
تبرز داخل هذا النقاش قضايا الهوية التي تتباين بشأنها الأطروحات، إذ هناك من يعتبر أن الهوية الثقافية سابقة على الهوية السياسية، وأن الأولى معطاة والثانية مبنية. وبالفعل فإن الهوية السياسية تبحث عن مرتكزها في الهوية الثقافية، لأن الهوية السياسية ابنة أوضاع أكثر مما هي ذاكرة فردية أو جماعية ملزمة وضرورية. من هنا فإن الكثير من المفاهيم والمصطلحات التي تروج في الخطاب الأمازيغي تحتاج إلى تعميق نظري يستحضر الأبعاد الاجتماعية والسياسية والنفسية..ويكفي أن نذكر مفاهيم مثل) الشعب الأمازيغي، تقرير المصير، العنصرية، التمييز العنصري، الحكم الذاتي، الغزاة العرب.... (وهي مفاهيم تروج لخطاب تقسيمي، لأن ذلك سيقود إلى الحديث عن الشعب العربي والشعب الأندلسي والشعب الإفريقي...وهكذا يصبح المطلب مدخلا إلى التجزيء والطائفية القائمة على أسس هوياتية متخيلة، مادام الحديث عن هوية صافية مجرد ضرب من الميتافيزيقا والخيال،بل إن المزايدات السياسية دفعت البعض إلى الارتماء في أحضان إسرائيل، والبحث عن الشرعية بالحج إليها باعتبارها قبلة بديلة.
وفي ارتباط بموضوع الهوية تطرح المطالب تضمين الدستور بنودا تتعلق بنوع النظام الإداري ومكانة الدين ،وترسيخ الأعراف الأمازيغية بشكل قانوني . ومثل هذه القضايا لاتحسم فيها المطالب فقط، بل تساهم في بلورة تصوراتها الاجتهادات المعرفية، مع الانتباه إلى أن الخطاب الأمازيغي الذي يتبنى قيم الحداثة يروج لخطاب القبيلة ولخطاب سلفي ، ما دامت السلفية هي ذلك الفكر الذي يؤمن بأن حلول الماضي صالحة لحل مشاكل الحاضر. فالحديث عن الأعراف، مثلا، هو نوع من هذه السلفية التي ترتدي لباس الحداثة، والباحثة عن مشروعية إعادة قراءة التاريخ المغربي الحديث قراءة جديدة تلغي مفهوم الظهير البربري بإعادة الاعتبار لشرعية الأعراف.
ثالثا: المدخل الحقوقي
   نقصد به الطبيعة الحقوقية لمطلب الدسترة والذي يستدعي الإجابة عن أسئلة من قبيل: ما العلاقة بين ترسيم لغة ما وهوية المجتمع ؟ وهل يعد ترسيم لغة ما تفعيلا لمبادئ حقوق الإنسان؟ وهل يعد عدم ترسيمها خرقا لمبادئ حقوق الإنسان؟.
    تتطلب الإجابة عن مثل هذه الأسئلة استحضار تجارب دول أخرى، أو هيآت معترف لها بالمصداقية والدفاع عن حقوق الإنسان، كما يتطلب استحضار المطالب التي تقدمها الكثير من الحركات الأمازيغية. لكن هذا الاستحضار من قبلنا مقيد بشروط نعتبرها أساسية، ذلك أن المطالب حق مشروع يؤكد حيوية الحركات الاجتماعية والمدنية والسياسية، وفي حالتنا فإن المبدأ يعني مشروعية المطالب في جزئها الإجرائي باعتبارها اقتناعات لمواطنين مغاربة، لكن مضامين هذه المطالب هي أساس نقاشنا. فقد انتقلت مطالب الحركات الأمازيغية، من مطلب الإقرار بالهوية إلى المطالبة بصفة اللغة الوطنية وصولا إلى المطالبة بصفتي اللغة الوطنية والرسمية وعدم إدماج البعد الديني في نص الدستور.
لنقارب، إذن، مطلب ترسيم الأمازيغية في علاقته بالهوية أولا، ثم نتبع ذلك بالحديث عن علاقته بحقوق الإنسان حيث نقدم طرحا يرى أن مبدأ ترسيم لغة ما لايمت بصلة إلى الهوية وقضاياها، فالكثير من الدول التي اختارت لغاتها الرسمية لم تخترها بناء على معيار الهوية، بل على معايير الوظيفية الاقتصادية والإدارية والتواصلية والدولية.أما ربط الترسيم بحقوق الإنسان ففيه الكثير من النظر، ويكفي أن نستحضر اختيارات الأمم المتحدة للتدليل على ذلك، فالأمم المتحدة باعتبارها كيانا معنويا يضم هويات مختلفة هي الدول المنتمية إليها، والتي تفوق 190 دولة اختارت 6 لغات رسمية ضمنها اللغة العربية الفصحى، استنادا إلى معايير محددة، مثل معيار عدد الناطقين بهذه اللغات أو المعيار الوظيفي أو المعيار الاقتصادي. وهذا الاختيار لم يكن محل طعن في مدى تشبث الأمم المتحدة بحقوق الإنسان، وهي صاحبة المواثيق الدولية التي يحتكم إليها المقتنعون بالحقوق الإنسانية وضمنها الحقوق الثقافية واللغوية.
* من الناحية المبدئية،إذن،موضوع ترسيم لغة ما لاعلاقة له بالهوية وقضاياها، بل إنه مرتبط بالوظيفية، لأن اللغة الرسمية هي لغة العمل.ومن الناحية العملية،فإن ترسيم لغة ما أو عدة لغات هي قضية إمكانات مادية واقتصادية ووظائف دولية. ويمكن في هذا الصدد الإطلاع على التجربة الكندية أو البلجيكية.و
من الناحية الحقوقية لايمكن الجزم بالتعالق بين حقوق الإنسان والترسيم. ورغم كل ذلك نقول بأن من حق كل مواطن مغربي أن يطالب بما يراه متجاوبا مع ما يعتبره في لحظة تاريخية ما مكونا لهويته، لكن ذلك لايعني أن المطالب ينبغي أن تبنى على حقوق الآخرين، أي أن فئة من المغاربة تطالب بحقوقها وتجعل جزءا من مشروعية مطالبها مؤسسا على الدعوة إلى اغتيال جزء من مكونات الهوية المغربية، وإلا فما معنى خلق تقابل غير مسوغ بين العربية والأمازيغية، وانتقاد العربية بشكل فج يصل حد التجريح والتنقيص ؟ لنترك هذه الأسئلة التي تحمل مضمراتها ولننتقل إلى مناقشة مطلب التوطين، أي المطلب الداعي إلى جعل الأمازيغية لغة وطنية.
لغة وطنية أم لغات وطنية؟
  لاشك أن من بين القضايا الأساسية التي ينبغي تداولها اليوم بشكل ديمقراطي وبانفتاح معرفي وأفق وطني قضية اللغة الوطنية، حيث يتم الإقرار بوجود تعدد لسني بالمغرب يقوم على وجود عربية فصحى ولغة حسانية ودوارج مغربية وأمازيغيات مغربية هي تشلحيت وتريفيت وتمزيغت، مع الأخذ بعين الاعتبار الحضور المهيمن للفرنسية في دوالب الإدارة المغربية، ومجال الاقتصاد الوطني، وحضور تواصلي للإسبانية بشمال المغرب .
بداية لنلاحظ أن مطلب جعل الأمازيغية لغة وطنية في دستور ديمقراطي يستند إلى جملة معايير ضمنها أنها لغة الأم، ولغة الهوية الأمازيغية. لكن لنلاحظ أيضا أن هذين المعيارين ينطبقان على الدوارج المغربية، وعلى الحسانية بامتياز، فالدوارج المغربية هي لغات الأم بالنسبة للكثير من المغاربة. ولذلك لم يكن مستغربا أن نجد اليوم من يدعو إلى جعلها لغات الإعلام الأولى، بل إننا نجد في بلد مثل مصر دعوات مماثلة تدعو إلى تأسيس معهد لدراسة العامية المصرية، بل ود سترتها أيضا. ورغم أن الخلفيات الموجهة لهذا النقاش ذات أبعاد وأهداف أخرى، فإننا نقر بحق أصحابها في الدعوة إلى ما يرونه معبرا عن وجهة نظرهم. أما الحسانية فإن وضعها باعتبارها لغة الأم لايجادل فيه إلا معاند. وإذا أردنا أن نضيف معيار الجهوية، الذي يرد في بعض الخطابات الأمازيغية، سننتهي إلى كون الجهوية تنطبق كذلك على باقي اللغات الوطنية. ولذلك فإن مطلبي التوطين والجهوية ينبغي أن يستحضرا هذه الأبعاد مجتمعة.
عندما نخصص الحديث عن الأمازيغية فإننا ننبه إلى أننا نأخذها بصيغة الجمع، إذ نحن أمام تعدد لسني تؤكده الأمازيغيات الثلاث، وعندما نستحضر هذا المعطى يصبح الحديث عن ترسيم الأمازيغية في وضع محرج، إذ كيف ندعو إلى ترسيم لغة غير موجودة لحد الآن ؟ هل ندستر لغة افتراضية ستوحد المتعدد؟ من هنا نفهم أبعاد السؤال الذي طرحه أحمد بوكوس مدير المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية:هل ندستر الأمازيغية قبل تأهيلها أم نعتبر أن الدسترة شرط من شروط تأهيلها؟
وهذا التساؤل الموضوعي يعني أن الأمازيغية المفترضة، والتي هي أمازيغية موحدة وممعيرة هي إنتاج مجهود يسعى المعهد إلى إنتاجه، علما بأنه مطلب قديم تحدث عنه مؤرخون ولسانيون مثل الجزائري سالم شاكر. وبغض النظر عن طبيعة هذا التوحيد والمعيرة، فإن أسئلة كثيرة تطرح على الداعين إليها والساهرين عليها مثلما هي مطروحة على كل المغاربة، كما أنها تجعل الخطاب الأمازيغي في مأزق نظري أساسي. فقد بنى هذا الخطاب طروحاته على ثنائية التنوع والوحدة، والحال أن مبدأ المعيرة هو إقصاء لهذا التعدد، كما أنه سيحول الأمازيغيات إلى أمازيغية واحدة تتميز بكونها أما زيغية فصحى سيكون لها من الخصائص ما للعربية الفصحى التي كثيرا ما انتقدها الخطاب الأمازيغي المطالب بالإجابة عن سؤالين هما: كيف نضمن التنوع الذي لايفضي إلى التشتت؟وكيف نحافظ على الوحدة التي لاتقوم على القسر والقهر؟ .
 جمال بندحمان

jeudi 30 septembre 2010

المسألة اللغوية بالمغرب والرهانات السياسية

المسألة اللغوية بالمغرب والرهانات السياسية

رشيد الإدريسي
الإنصاف والمزايدة
لا أحد ينكر أن الملف الثقافي واللغوي عرف الكثير من الإجراءات الإيجابية من طرف العاهل المغربي محمد السادس منذ بداية العهد الجديد، وقد تجسدت هذه الإجراءات في ظهير أجدير الذي ركز على تعدد مكونات الثقافة المغربية والذي أنشئ بموجبه المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، إضافة إلى إدخال تعليم الأمازيغية إلى المنظومة التعليمية وتوسيع فترات بث البرامج الناطقة بالأمازيغية في وسائل الإعلام الوطنية، والمصادقة على إنشاء قناة أمازيغية سترى النور في الأيام القليلة المقبلة, هذا دون الحديث عن مبادرات أخرى ممثلة في دعم الإنتاج المسرحي والإبداع المكتوب بمختلف أشكاله. كل هذه المبادرات لا يملك المرء إلا أن يثمنها باعتبارها تولي الاهتمام اللازم لأحد مكونات ثقافتنا المغربية الأساسية.
لكن الملاحظ أنه على الضفة الأخرى مجسدة في بعض الجمعيات التي تتخذ الأمازيغية غطاء إيديولوجيا لها، نلاحظ عدم الاكتراث بكل ما تحقق والإصرار على رفع سقف المطالب لتحويلها أحيانا إلى نوع من المزايدات والعداء السافر والخفي للمكونات المغربية الأخرى. وقد اتخذت هذه المزايدات شكل مذكرات مطلبية يتم رفعها للملك بمناسبة وبغير مناسبة. وكثرة هذه المذكرات والوثيرة التي ترفع بها، قد يُفهَمُ منها الرغبة في إحراج الملك وتمرير المطلب دون إخضاعه للنقاش حتى لا يُفضح ما ينطوي عليه،  في الكثير من الحالات، من أفكار طائفية وعرقية، بينما المسار الأسلم هو طرحها للنقاش في الفضاء العمومي وتقليبها على مختلف وجوهها بهدف مراعاة مصلحة المغرب والمغاربة جميعا، بدل الحديث عن جزء من المغاربة في مواجهة جزء آخر والتمكين لثقافة الكراهية والحقد التي ينطوي عليها خطاب الكثير من الجمعيات.
المذكرات المطلبية وقلب الحقائق
وإستراتيجية المذكرات المطلبية لا تقتصر فقط على الجمعيات وحدها، بل تطال المؤسسات الرسمية، وعلى رأسها المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية الذي رفع السنة الماضية توصية إلى الملك قصد جعل ما يسميه فاتح "السنة الأمازيغية" عيدا وطنيا، وذلك على الرغم من أن المغاربة لم يسبق لهم أن عرفوا هذا الاسم إلا مع الاستعمار الفرنسي، الذي رغبة منه في التجزئة، حَرَّف تسمية السنة الفلاحية وحولها إلى سنة "أمازيغية" ليؤكد من خلال ذلك أن الفتح الإسلامي وتقويمه الهجري، حدث ثانوي في التاريخ المغربي، ولينتهي بواسطة سياسته البربرية المتكاملة إلى صنع شعبين، شعب يحتفل بسنة وهمية تسمى السنة الأمازيغية، وآخر يحتفل بالسنة الهجرية، وذلك في إطار سياسته الهادفة إلى التقليص من حيز المشتركات الوطنية وتضخيم التمايزات بين المغاربة
وآخر مبادرة من هذا النوع هو ما تنوي القيام به إحدى الجمعيات التي اعتادت هذا الشكل من الفعل "النضالي"، والمتعلقة هذه المرة بمطالبة العاهل المغربي بدسترة الأمازيغية وترسيمها على قدم المساواة مع اللغة العربية، أو بتعبير أصح ترسيمها قبل اللغة العربية. والمبادرة تشرف عليها "الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي" وهي تحمل اسم "مشروع مذكرة مطلبية من أجل ترسيم الأمازيغية في الدستور". وقد سبق لنا أن ناقشنا الموضوع في أكثر من مناسبة، وبينا أن ترسيم الأمازيغية يلزمه أن يكون بالجمع أي الأمازيغيات لأننا في المغرب أمام تعبيرات عدة تامازيغت تاريفيت تاشلحيت، وأن الدسترة يلزم أن تشير إلى أن هذه اللغات أو التعبيرات بوصفها لغات وطنية جهوية؛ وطنية بمعنى أنها مِلْك لجميع المغاربة ويلزم الاعتناء بها من طرف الجميع، وجهوية بمعنى أن بعضها يتم التواصل به في جهة من المغرب دون الجهات الأخرى، وبالتالي فإن دسترتها بمعنى الإشارة إليها في الدستور بهذه الصفة، أمر مقبول، على عكس عملية  الترسيم  التي هي أمر غير ممكن لاعتبارات عدة.
واستحالة هذا المطلب، ترجع إلى أنه ليست هناك لغة أمازيغية أصلا، بل نحن إزاء لغات عدة، فأي منها سنُرَسّم؟ قد يقال بأن المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية يتولى مهمة توحيد هذه اللغات، وهذه الحجة تلغي مطلب الترسيم من أساسه، لأننا في هذه الحالة سنقوم بترسيم لغة لا وجود لها على ألسنة المواطنين، لغة المختبر التي يشتغل عليها المعهد الملكي. وهي لغة كما تم الإعلان عن ذلك، تخضع لعملية تطهير من الألفاظ العربية وتعويضها بألفاظ طوارق النيجر وغيرهم. ثم إن الترسيم كما يطالب به هؤلاء الملك، يخفي نوعا من الحيف في حق مكونات المغرب اللغوية الأخرى، وعلى رأسها الحسانية التي هي بدورها لها معجمها وتراثها المهمش الذي لم ُيبذل أي جهد يذكر لجمعه وتدوينه والحفاظ عليه، هذا على الرغم من أن الحيثيات السياسية تفرض ذلك وتجعله أمرا مستعجلا. مطلب الترسيم إذن هو عمليا مطلب مستحيل،  فاللغة القادرة على الوفاء به إلى حدود الآن هي العربية، وإن كانت اللغة المرسمة عمليا هي اللغة الفرنسية المسيطرة على الاقتصاد والإعلام والإدارات...
المذكرة بين المرجعيات والأهداف
ما الذي أتت به من جديد، المذكرة التي يراد رفعها إلى الملك والداعية إلى الترسيم؟ لا شيء سوى أنها اعتمدت  لغة لم نألفها من قبل في المذكرات السابقة. فهذه المرة يتم الحديث مباشرة، ليس عن الأمازيغية كثقافة ولغة، بل يتم الحديث عن الأمازيغ وليس الحديث عن المغاربة، وكأننا في دولة طائفية يفصل بين مكوناتها حدود دموية كتلك التي تحدث عنها صامويل هونتينجتون في صراع الحضارات. ففي حديث أصحاب المذكرة عن المرجعية التاريخية التي تهب المشروعية لهذا المطلب، يؤكدون ما يلي، والكلام موجه للملك: " كل الأدلة العلمية تؤكد أن الأمازيغ ظهروا على مسرح التاريخ آلاف السنين قبل الميلاد. كما تؤكد أن لحضارتهم فوق هذه الأرض مميزاتها الخاصة، على المستوى اللغوي أو الاجتماعي أو الثقافي، ميزتها عن باقي حضارات الحوض المتوسطي القديم، الذي كان مركز العالم آنذاك". والمتأمل في هذا الكلام يلاحظ أن أصحابه يخلطون الماضي بالحاضر ويلغون أربعة عشر قرنا من التاريخ منذ دخول الإسلام إلى المغرب، ويتحدثون عن الحاضر من خلال الماضي بهدف تمرير مطلبهم اللاعقلاني، وكأن  المغرب ما زال كما كان منذ آلاف السنين، ولذلك فهم يتحدثون عن حضارة الأمازيغ المتميزة عن حضارات الحوض المتوسطي التي من بينها الحضارة العربية الإسلامية التي يعتبر المغاربة ممن ساهموا في بنائها, فهذا النوع من التعبير يخفي إذن الرغبة في إخراج المغرب من حيز الحضارة العربية الإسلامية، أو هو يكشف عن ميل إلى كتابة للتاريخ تعتمد الصفاء العرقي والنظرة العنصرية تجاه المكونات الأخرى.
وبعد إشارة المذكرة إلى المرجعيات المتمثلة في المرجعية الحقوقية والمؤسساتية وتحديد الأهداف التي يراد تحقيقها، وهي كلها عناصر يمكن مناقشتها نقطة نقطة وتبيان هشاشتها وتناقضها الصريح مع المنطلقات الحقوقية، يصل أصحاب المذكرة إلى بيت القصيد مجسدا في المقترحات، والتي يصوغونها على الشكل التالي: " بناء على المنطلقات السابقة، وسعيا وراء تحقيق الأهداف المسطرة أعلاه، فإن الجمعيات الأمازيغية والمنظمات المهتمة بالشأن الحقوقي المتشبثة بوحدة المغرب في تعدده والحريصة على وحدة اللغة الأمازيغية بمختلف فروعها، تعرض على أنظار جلالتكم مقترح تعديلات تخص ديباجة الدستور والباب المحتمل إضافته في شأن التنظيم الجهوي الجديد للمملكة، بالتنصيص في التصدير على ترسيم اللغة الأمازيغية إلى جانب اللغة العربية والتركيز على أبعاد الهوية المغربية وفق الصيغة المقترحة التالية "المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، لغتاها الرسميتان هما اللغة الأمازيغية واللغة العربية، وهي جزء من اتحاد المغرب الكبير".
الوحدة التي تخفي نقيضها
قبل تقديم الاقتراح الأكثر إنصافا للمغرب وللمغاربة جميعا، ومن أجل الابتعاد عما سماه عبد الله العروي بالسندروم البلجيكي الذي يتهدد المغرب بفعل العداء الذي يظهره النزوعيون ومتطرفو الأمازيغية تجاه اللغة العربية، فإننا نسجل بعض الملاحظات على هذا المقترح المختل. فهناك أولا حديث عن وحدة المغرب في تعدده؛ أي الإبقاء على كل المكونات الثقافية واللغوية المغربية والاعتناء بها دون التفريط في وحدة المغرب، وهذه قضية تؤكد عليها كل الدول التي تخضع خططها الثقافية للعقل والترشيد، لكن مباشرة بعد ذلك يورد أصحاب المذكرة الحرص على وحدة اللغة الأمازيغية، وفي ذلك تناقض صارخ مع الحديث عن التعدد الذي يستلزم الإبقاء على الأمازيغية متعددة وليست موحدة، لأن التوحد معناه القضاء على مختلف التعبيرات الريفية والشلحية والزيانية وتعويض الكل بلغة ينتجها المختبر ويصبح على الجميع التخلي عن خصوصياته وتعلمها من جديد، وهذا أمر مقبول في الدول التي يراد إنشاؤها من الصفر كما هو الشأن بالنسبة لإسرائيل مثلا التي "طالبت" اليهود المُهَجَرين من مختلف الدول الأخرى أن ينسوا لغاتهم وخصوصياتهم وأن يتبنوا اللغة العبرية الحديثة التي وضع أسسها أليعازر بن يهودا.
 وما يعرفه الجميع هو أن المغرب دولة عريقة، والوحدة التي يتم التنصيص عليها هنا تَضْمَنُها اللغة العربية، وضمنتها مع مختلف الدول التي تعاقبت على حكم المغرب بما فيها الدول التي لا يشك أحد في أمازيغيتها، والتي لا نجد أي نص تاريخي يشير إلى أنها كانت تتعامل مع العربية بوصفها لغة أجنبية، بل على العكس من ذلك، كانوا يعتبرونها لغتهم قبل كل اللغات. فهذا المطلب إذن هو دعوة إلى البداية من الصفر، وكأننا أمة لا تاريخ لها ومن الواجب علينا صنع لغة جديدة توحدنا، وهو ما يكشف عنه القول التالي:  "فإن الجمعيات الأمازيغية والمنظمات المهتمة بالشأن الحقوقي المتشبثة بوحدة المغرب في تعدده والحريصة على وحدة اللغة الأمازيغية بمختلف فروعها"، فهذا التعبير الوارد في هذه المذكرة المطلبية المرفوعة للملك، أشبه بالخط الأحمر، إذ يقرن وحدة المغرب بوحدة الأمازيغية. والواقع خلاف ذلك فالمغرب واحد وموحد والأمازيغية متعددة متنوعة، والمغرب سيبقى موحدا حتى لو ظلت الأمازيغية متعددة لأن في تعددها انسجام مع التاريخ والواقع و مع منطق حقوق الإنسان الذي تدعي هذه الجمعيات احترامه بينما هي أول من يخرقه.
والتأكيد على وحدة المغرب في هذا السياق يخفي عكس الوحدة تماما، وذلك لأن أصحاب الرسالة يعرفون أن ترسيم لغتين، سيفتح باب التعصب والصراع، وهذا ما وقع في كندا عند اعتمادها للثنائية الثقافية، مما ترتب عنه صراع قاتل، فاضطرت كندا إلى تجاوز هذه الثنائية والخروج من الورطة التي أوقعت نفسها فيها باعتماد التعدد الثقافي والتأكيد عليه رسميا. فالحديث عن الوحدة هنا أشبه بحصان طروادة الذي يراد بواسطته تنفيذ الخطة دون إثارة الشكوك، وكأن الذي كتب المذكرة، كان يعي ذلك جيدا فاعتمد قاعدة ميكيافيلية يمكن صياغتها على الشكل التالي :"أعط الآخر ما يريد قولا لتحصل على ما تريد فعلا"، فالوحدة هنا مجرد قول وشعار لا أكثر، بينما ما قد ينتج عمليا عن هذا الإجراء الدستوري قد يؤدي إلى عكس الشعار المرفوع.
ترسيم الوهم وشَيْطَنَة "العربي"
ونصل الآن إلى المطلب الأساسي والمقترح على جلالة الملك تبنيه من طرف الجمعية المغربية، وقد تم إيراده وفق الصيغة التالية "المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، لغتاها الرسميتان هما اللغة الأمازيغية واللغة العربية، وهي جزء من اتحاد المغرب الكبير". الغريب في هذا الاقتراح أن المذكرة المطلبية منذ أن بدأها أصحابها وهم يتحدثون عن الحقوق والتعدد والترسيم والتسامح والتدبير المعقلن، وهنا عند أول امتحان يعلنون عن فشلهم وتناقضهم مع منطلقاتهم المعلنة. فهم يقترحون اعتبار المغرب جزء من اتحاد المغرب الكبير؛ أي أنهم يقترحون نزع كلمة عربي التي ارتبطت باتحاد المغرب وتعويضها بلفظ كبير الفارغ من أي معنى، وهذا وحده يكفي لوضع اليد على الرؤية العنصرية التي تحكم هذا التصور، فهل نسي هؤلاء أن نعت عربي تم الاتفاق عليه من طرف مختلف قيادات دول المغرب العربي، وأنه معتمد بشكل رسمي، هل نسوا أن المغرب عضو في جامعة الدول العربية وفي غيرها من عشرات المنظمات والهيئات الحاملة لهذا النعت؟ إن هذا المقترح كاف وحده للكشف عن العداء الذي يكنه هؤلاء لأحد مكونات الهوية المغربية المتمثل في العربية لغة وثقافة وحضارة، كما أنه يكشف عن تصورهم للمغرب وكأنه أرض فارغة بلا تاريخ بلا مؤسسات وبلا ثوابت، أرض يبحث أصحابها عن مقومات لتأسيس دولة لا وجود لها.دولة في حاجة إلى لغة جديدة وتقويم جديد وعَلَم جديد وأبجدية جديدة وأعداء جدد هم العرب وكل ما يرتبط بهم.
إن هذا المطلب المتهافت، يكشف عن رؤية صدامية بين مكونات المغرب؛ حيث ينطلق من مسلمة مؤداها أنه "لا يمكن أن أوجد إلا إذا ألغيتك"، كما أنه يؤسس للمحاصصة على الطريقة العراقية، عربي ضد أمازيغي، ويعطي الأولوية للغة الأمازيغية على اللغة العربية المرسمة منذ قرون عُرْفا، وللأعراف قيمة لدى أصحاب المذكرة، فهم يطالبون الملك بالتنصيص في الدستور على مراعاة الأعراف المحلية. هذا مع أن الأمازيغية بالمفرد،، كما أكدنا لا وجود لها لحد الآن، بينما العربية موجودة ومعتمدة في أغلب الهيئات الدولية، فهل يعقل أن تعطى الأولوية للغائب على الشاهد؟ إن هذا المطلب بصيغته هذه غير عادل تماما وشديد التهافت، لأنه يقابل اللغة العربية بالأمازيغية أو الأمازيغيات، وهذا في حد ذاته نوع من المغالطة، ذلك أن اللغة العربية ليست هي المعادل الموضوعي للأمازيغية، بل معادلُها الحقيقي هي الدارجة المغربية التي يتواصل بها جزء كبير من المغاربة. والمقابلة بين الأمازيغيات والدوارج المغربية أمر مقبول، على اعتبار أنها لغات تشترك في خصائص لا نجدها في العربية الفصيحة المرسمة؛ فهي لغات يُتَحَدث بها في جهات من المغرب دون غيرها، وهي في الأصل لغات شفهية، وهي كذلك لغات الأم لكل المغاربة حسب مكان تواجدهم؛ أي أنها هي اللغات التي يتعلمها المرء في السنوات الأولى من تحصيله اللغوي ويتواصل بها في حياته اليومية. أما اللغة العربية الفصحية فهي تعلو عن الجهة وعن العرق وتحظى بوضع اعتباري لدى الجميع، وقد اعتمدت عرفيا لغة رسمية منذ دخول الإسلام إلى المغرب، وذلك من طرف كل الدول المغربية، وهي لغة قوية معتمدة في الأمم المتحدة وفي أكثر من منظمة دولية أخرى، وهي تسمح بالتواصل مع مختلف دول اتحاد المغرب والعالم العربي بأقل تكلفة وأقل جهد، كما أنها لغة تضمن الأمن الروحي والأمن الاجتماعي والسياسي للمغاربة جميعا، يؤهلها للقيام بكل هذه الأدوار وغيرها، تراثها الضخم ممثلا في آلاف المعاجم والكتب التي تراكمت على مر التاريخ.   
بناء على هذه الحقائق وغيرها، فإن الصيغة المثلى لما يجب إدراجه في ديباجة الدستور، بعيدا عن كل تحيز ومراعاة للإنصاف والعدل هي الصيغة التالية: "المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، لغاتها الوطنية هي الأمازيغية بتعبيراتها المتنوعة (تاريفيت، تامازيغت، تاشلحيت) والحسانية والدوارج المغربية، ولغتها الرسمية هي اللغة العربية، وهي جزء من اتحاد المغرب العربي". ونختم بما قلناه في مقال سابق: إنه لو كانت لغة الدستور الرسمية هي إحدى اللغات المغربية المرتبطة بجهة أو فئة أو قبيلة ما، لكان من حق من شاء أن يطالب بترسيم أي من اللغات المغربية الأخرى، أما وأن الأمر غير ذلك، فيتحتم الإبقاء على اللغة العربية الفصيحة لغة رسمية لكل المغاربة، مع التنصيص على وطنية كل اللغات الأخرى دون استثناء. والدساتير العالمية التي تنص على لغة رسمية واحدة، لا تعارض حقوق الإنسان في شيء، بل على العكس من ذلك، هذا ما نجده معتمدا من طرف الكثير من الديمقراطيات الكبرى.
المصدر: أسبوعية الأيام ، ع392، 18-24 شتنبر 2009


الأحزاب السياسية المغربية: تداخل المرجعيات وتحديات المستقبل

الأحزاب السياسية المغربية: تداخل المرجعيات وتحديات المستقبل
جمال بندحمان
     مابين تأسيس كثلة العمل الوطني في ثلاثينيات القرن الماضي، وتأسيس حزب الأصالة والمعاصرة مسيرة سياسية طويلة تأرجحت بين توظيف الحزب السياسي لغايات نضالية تواجه الاستعمار وصولا إلى توظيف الحزب للإجابة عن أسئلة معقدة يواجهها المغرب المعاصر، وتم التعبير عنها في صيغة معادلة ذات طبيعة إشكالية تحمل ثنائية الأصالة والمعاصرة في محاولة لاحتواء كل الخطابات ، سواء منها تلك التي نمت في ظل خطاب يميني محافظ أو تلك التي اختارت مرجعية يسارية بمختلف تشعباتها المرجعية، والواقع أن منظومة الأحزاب بالمغرب استعصت دوما على التصنيف لتداخل مرجعياتها وتباين مواقفها، وإذا نحن استحضرنا التاريخ الحزبي سنجد بأن واحدة من أهم مميزاته هي الانقسامية التي شكلت دوما أساسا لحسم الخلافات وتحقيق الطموحات الفردية، فقد كان حزب الاستقلال الذي تأسس في أربعينيات القرن الماضي  الرحم الذي خرج منه الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي انشق عنه الاتحاد الاشتراكي الذي تناسلت منه أحزاب يسارية متعددة ، إذ كلما حلت محطة تنظيمية أو استحقاق سياسي كبير إلا وأفرز مولودا حزبيا جديدا.
   وفي الثمانينيات من القرن الماضي برزت إلى الوجود أحزاب وصفت باليمينية والليبرالية من قبل أصحابها، وبالإدارية من قبل خصومها السياسيين، وكان خروج بعضها يتحقق مع زمن الاستحقاق الانتخابي الذي كثيرا ما كان الحزب الجديد يفوز بمراتبه الأولى لينتقل إلى تسيير الشأن العام وتدبيره,
  أفرز هذا الوضع الحزبي تشردما سياسيا وتداخلا كبيرا بين المرجعيات وعدم القدرة على خلق أقطاب كبرى رغم مابرز خلال فترات تاريخية مثلما هو حال الكتلة الديمقراطية  التي تشكلت نواتها الكبرى من حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي ، لتقابل بتحالف آخر أطلق عليه الوفاق الذي تشكل من أحزاب الحركة الشعبية والاتحاد الدستوري والحزب الوطني الديمقراطي والحركة الديمقراطية الاجتماعية، وقد كان لمثل هذه التحالفات أن تشكل منطلقا لأقطاب سياسية كبرى تقود إلى التقليص من التضخم غير الطبيعي في عدد الأحزاب الذي فاق اليوم الثلاثين حزبا ، ورغم أن المقاربة الأولية يمكن أن تبحث عن عللها في التعددية وثقافة الاختلاف والحرية السياسية إلا أن هذا التضخم الحزبي  لم يسهم في تعميم الثقافة السياسية، ولم يتجذرفي  المجمتع، ولم يستقطب الفئات الشابة التي تتحدث الدراسات عن نسبة عزوف كبرى لديها.
     إلى جانب التصنيف السابق برزت منذ تسعينيات القرن الماضي أحزاب جديدة أهمها تلك المتولدة عن المرجعية الإسلامية ممثلة في حزب العدالة والتنمية في مرحلة أولى، والبديل الحضاري قي مرحلة ثانية ،والفضيلة في مرحلة ثالثة، كما برزت بعض الأحزاب المتولدة عن اليسار الجدري؛ مثل حزب النهج الديمقراطي الذي اتخذ من مقاطعة الاستحقاقات الانتخابية واحدة من اختياراته المرجعية ،إضافة إلى تبنيه الكثير من القضايا ذات الطبيعة الاجتماعية.           وإذا نحن عدنا إلى الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية سجلنا كثرة الإكراهات التي واجهتها من خلال التشكيك في اقتناعها بالقواعد الديمقراطية، رغم مساهمتها في التدبير المحلي لجماعات محلية )بلديات ( وانخراطها في المؤسسات التشريعية...... وإذا كان هذا الأمر ينطبق على العدالة والتنمية ، فإن حزبا آخر ذي مرجعية إسلامية قد تم حله السنة الماضية بسسب تهم كبرى تجري بشأتها اليوم محاكمة لم تعرف أطوارها النهائية بعد.
   وإذا كان المغرب يقر بالتعددية السياسية، فإن قانون الأحزاب يمنع تأسيسها على أسسس  عرقية مما يفسر حل حزب آخر اتخذ اسم  الحزب الأمازيغي الذي أراد استثمار صيغة الانفتاح المؤسساتية للتركيز على قضايا تدافع عن هوية تعتبرها الهوية الأصلية للمغرب، ويعتبره مخالفوه حزبا يشرع لشقاق غير مستصاغ، ومبني على مطالب غير ديمقراطية، وغير تاريخية. كما أن  الانفتاح السياسي سمح  ببروز حزب جديد بداية هذه السنة حمل اسم الأصالة والمعاصرة ،دعا إلى فتح المجال أمام فئات ظلت تنفر من العمل السياسي، كما اعتبر أن مهمته هي إعادة الاعتبار للعمل السياسي، ومواجهة الخطاب الذي يخلط بين الدعوي والسياسي ويستغل الدين لغايات سياسية. غير أن خصوم هذا الحزب أطلقوا عليه صفات متعددة أبرزها صفة الوافد الجديد، والحزب الإداري الذي يريد إعادة تجربة ماعرفه المغرب في ستينيات القرن الماضي عندما تم تأسيس حزب الفديك لمزاحمة وإرباك الأحزاب الوطنية  التي كانت تتخذ مواقف معارضة لنظام الحكم، وقد كانت الانتخابات الجماعية التي عرفها المغرب يوم 12يونيو 2009فرصة لقياس الكثير من التوقعات، حيث فاز الحزب الجديد بالمرتبة الأولى ليصبح قوة سياسية عددية، وليدخل في صراع قوي مع أحزاب مثل العدالة والتنمية والاتحاد الاشتراكي ،كان من نتائجه تحالفات بين الحزبين اعتبرت ضد الطبيعة من قبل البعض واستجابة لإكراهات وتحديات كبرى من لدن أصحابها.
   والواقع أن المشهد الحزبي بالمغرب  يمتاز بخصائص كثيرة؛ فهو انقسامي، ومتداخل المرجعيات، والتحالفات فيه لاتبنى على أسس استراتيحية، بل تأتي استجابة لظفريات تاريخية، كما أن الديمقراطية الداخلية كانت دوما موضع تساؤل ، إضافة إلى التساؤلات التي تواجهها حول مصدر شرعيتها؛ فبعض الأحزاب ظلت تعتبر الشرعية التاريخية مرجعها الأقوى، بينما تدافع أخرى عن الشرعية الديمقراطية، وكثيرا ما تطرح على هذه الأحزاب أسئلة محرجة تتعلق بعدم قدرتها على تأطير المواطنين، وتآكل شرعيتها بتآكل مواقفها، وقصر مهام بعضها على فترات الانتخابات,
   وفي مقابل هده الصورة تقدم مواقف أخرى تصورات تقر بالدور التاريخي للأحزاب في المغرب، فهي جزء أساسي من الحركة الوطنية التي قادت النضال ضد الاستعمار، وهي المحرك الأساسي للنضال الديمقراطي الذي عرفه مغرب مابعد الاستقلال، وهي من قدم الكثير من التضحيات قي سبيل الوصول إلى انتقال ديمقراطي توافقي، وهي من حمل شعارات الإصلاح المؤسساتي والدستوري، وهي المؤهلة للقيام بأدوار تاريخية مستقبلية لأن لاديمقراطية بدون أحزاب. وعليه فإن التحديات التي تواجهها تتعلق بوضوح المرجعيات وخلق أقطاب سياسية كبرى وتحديد الأهداف وتقوية الديمقراطية الداخلية، واستعادة ثقة المواطن.

حرية الصحافة بالمغرب:

حرية الصحافة بالمغرب:
           مفارقات التراكم وأخلاقيات   الممارسة
جمال بندحمان
 يسجل المتتبع للوضع الصحفي بالمغرب مفارقة بالغة الدلالة، ففي الوقت الذي تتعدد فيه المنابر الصحفية ويتم الخوض في الكثير من القضايا التي كانت إلى وقت قريب ضمن المحرمات السياسية، تقدم تقارير الرصد أحكاما تشكك في مدى تمتع الصحافة المغربية بالحرية المطلوبة وتخلصها من القيود المفروضة على الصحافيين، وهو ما أدى إلى تباين التقييمات التي كثيرا ماتدفع المسؤولين إلى التشكيك في صدقية التقارير وموضوعيتها. فقدصنفت منظمة بيت الحرية "فريدم هاوس" المغرب ، ضمن الدول التي تنعدم فيها الحرية الصحافية، وذلك في تقريرها السنوي بشأن "تصنيف الحرية الصحافية في دول العالم للعام 2009".ومنحت المنظمة المغرب المرتبة 140 في مستوى حرية الإعلام على مستوى العالم، متراجعا عن المرتبة 138 التي كان يحتلها في تقرير العام الماضي ، وأكد التقرير  أن المغرب سجل تراجعا خلال السنوات العشر الماضية في مؤشر حرية الصحافة ، حيث أصبح يصنف في خانة الدول التي لا تتوفر فيها حرية الإعلام خلال العام الجاري  2009.
 وفي تقريرها الذي يغطي الفترة الممتدةما  بين 3 ماي 2008 و 3 ماي 2009، انتهى تقرير النقابة الوطنية للصحافة المغربية إلى الخلاصة نفسها، فقد سجل  مفارقة اتساع رقعة حرية التعبير بسبب التطور الحاصل وطنيا و دوليا من جهة ، والتضييق على هذه الحرية من جهة أخرى، بسبب الهشاشة التي تعني أن السلطة السياسية مازالت قادرة على التحكم في نبض ممارسة حرية الصحافة والإعلام بالشكل الذي تراه ملائما ومنسجما مع توجهاتها. وفي هذا الإطار تم تقديم حالات للاعتداء على الصحافيين وترهيبهم مع مايخلفه ذلك من أثار نفسية وجسدية واجتماعية، كما انتقد التقرير قانـون الصحافـة مشيرا إلى أن مشروع إصلاح قانون الصحافة المعمول به حاليا يراوح مكانه، رغم كل الجهود التي بُذلت من أجل التوصل إلى اتفاق، ورغم كل الوعود التي قُدمت في هذا الشأن. وتم تسجيل الملاحظة نفسها بصدد العقوبات السالبة للحرية، الواردة في قانون الصحافة، والتي أصبح من الصعوبة تطبيقها، بالنسبة لكل الدول. حيث لم يعد مقبولا نهائيا، على المستوى العالمي، سجن الصحافيين بسبب ممارستهم لمهنتهم.  وطالب التقرير بضرورة مراجعة هذا القانون في ضوء التطورات الوطنية والدولية الحاصلة.
 من ناحية أخرى وجهت النقابة انتقادات للممارسة الصحفية بالمغرب خاصة أخلاقيات المهنة، مؤكدة أن  الوضع يزداد تفاقما ، بسبب بعض الصحفيين، الذين لا يكتفون بممارسات مشينة من قبيل السب والقذف ونشر أخبار كاذبة وتشويه سمعة الناس، بل إنهم يهاجمون كل من انتقدهم وطالبهم باحترام الأخلاقيات. وأثار التقرير الانتباه إلى مخاطرالتحالف بين الصحافة المكتوبة و تحالف المجموعات المالية مع المصالح السياسية السائدة. مما ينذر بكثير من التمركز، وبالضغط القوي على مهنة الصحافة لتصبح خاضعة أكثر لتوجيه المالكين.  وذكر التقرير بوظائف الصحافة القائمة على المصداقية في أدائها باعتبار ذلك هو الرهان الذي يجعلها قادرة على القيام بالدور الذي ينتظره منها المجتمع. ، سواء على مستوى ضمان المشاركة المدنية أو على مستوى المساهمة في التنمية.وقد كان من اللافت في هذا التقرير التأكيد على المساندة القوية من المجتمع المدني ومن الرأي العام للصحافة، حيث أصبح متجاوبا أكثر فأكثر مع الالتزام الاجتماعي للصحافة الحرص على حريتها. في مقابل هذه التقييمات تقدم الجهات الرسمية تصوراتها لما تعتبره تصورها لحرية الصحافة من خلال دعوتها الصحفيين بأن "يحصنوا المكتسبات الديمقراطية وأن يعملوا على توسيعها في نطاق احترام الضوابط القانونية " بالنظر إلى أن خدمة قضية الديمقراطية " لا تهم فقط الطبقة السياسية ولا تهم المؤسسات فقط ، بل تهم بالدرجة الأولى الصحفيين". والتأكيد على أن "الرهان الكبير هو أن يتفق الجميع على أننا لا نضع تناقضا أساسيا بين الحرية والديمقراطية من جهة، والوطنية والالتزام " من جهة أخرى،مع  العمل على " إشاعة ما بيداغوجية الديمقراطية وبيداغوجية الحرية".
  إن تباين التقييمات لايرجع إلى طبيعة الجهة التي تصدرها، بل يرجع كذلك إلى تصور كل جهة لوظائف الصحافة وأدوارها. وإن وجود نقاشات ، وإن كانت حادة التباينات، هو مؤشر إيجابي على وجود دينامية تساهم في بناء مجتمع يعرف انتقالا ديمقراطيا ضمن مسار تتخلله منعرجات ومطبات وصراعات.

التعدد اللغوي بالمغرب والانتقال الديمقراطي

التعدد اللغوي بالمغرب والانتقال الديمقراطي
جمال بندحمان

 يشهد المغرب نقاشا متناميا حول قضايا جوهرية مثل التربية والثرات الثقافي ووضع الدين ودوره والسياسة اللغوية، وهي قضايا كانت مغيبة عن النقاش العمومي لكنها أصبحت جزءا منه في ظل تحولات تتناول كل ما يرتبط بالتحول المجتمعي والثقافي والديمقراطي. فقد سمحت سنوات الانفتاح التي انطلقت منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي باتساع فضاءات الحرية وتطور استقلالية الحقل الحزبي وتزايد فعالية الحركات الجمعوية وانتعاش إطارات تدافع عن حقوق الإنسان وضمنها الحقوق الثقافية والاجتماعية.
   ضمن هذا الخطاب الحقوقي أصبحت قضية اللغة مثار اختلاف كبير، فإلى وقت قريب كان الإشكال المركزي مرتبطا بهيمنة اللغة الفرنسية على دواليب الإدارة والاقتصاد وجزء كبير من الإعلام المكتوب والمسموع وكان دعاة التعدد اللغوي والثقافي يربطون تصوراتهم بضرورة احترام اللغة الرسمية للبلاد التي يقرها الدستور، وهي اللغة العربية مع ضرورة الانفتاح على اللغات الأخرى ذات النفوذ المعرفي والفعالية الوظيفية. غير أن هذا النقاش بدأ في التواري منذ تسعينيات القرن الماضي لتحل محله بدائل متشعبة تهم النسيج اللغوي المغربي المتميز بتعدده الذي يضم الدوارج المغربية والحسانية التي يتكلمها الصحراويون المغاربة، والأمازيغيات الثلاث، تاريفيت وتاشلحيت وتامازيغت، والتي تهيمن كل واحدة منها في إحدى جهات المغرب. غير أن وتيرة المطالب ظلت متباينة، ففي الوقت الذي تقوت فيه حدة الأصوات المدافعة عن الأمازيغية تخفت الأصوات المدافعة عن الحسانية، وتحضر الأصوات المدافعة عن الدارجة المغربية في الإعلام خاصة وهو ما يصفه البعض بالمؤامرة التي تستهدف إضعاف وضع العربية الفصحى.
     لقد شكلت الأمازيغية خلال السنوات الأخيرة موضوع جدل كبير، فرغم أن جزءامن مطالبها كان حاضرا منذ التسعينيات فإن تطور خطابها دفع البعض إلى ربطها بما يقع في المغرب من تحولات ديمقراطية، بينما رأى فيها آخرون تهديدا حقيقيا لتلاحم النسيج الاجتماعي المغربي، وإرهاقا للمالية العامة، وشرخا للهوية المغربية. وهي سلبيات قد تعوق المسار الديمقراطي وترهنه. فقد اقتصرت المطالب الأمازيغية في البداية على الجانبين اللساني والثقافي، لكنها تحولت إلى مطالب سياسية تنتقد منهجية الدولة في تدبيرها العام، وتتهمها بتهميش المكون الأمازيغي وإقصائه من منظومتها التربوية والدستورية ومن سياستها اللغوية، لكن بعض الخطابات نحت منحى متشددا يتهجم على اللغة العربية ويتهمها بالهيمنة التاريخية، ويدعوالعرب إلى العودة إلى مواطنهم الأولى التي وفدوا منها وترك بلاد الأمازيغ للأمازيغ ،مع تمجيد للحقبة السابقة على دخول الإسلام إلى المغرب وإعادة الاعتبار للشخصيات التي قاومته.   في حين أن جزءا آخر من هذا الخطاب ركز على ضرورة تأهيل الأمازيغية من خلال توحيدها ومعيرتها والتقنين لها والاعتراف بها في الدستور المغربي باعتبارها لغة وطنية ورسمية.
  لقد أفضى هذا النقاش إلى بروز طفرة جمعوية أمازيغية، وتأسيس حزب أمازيغي اعتبرته وزارة الداخلية حزبا غير شرعي، لأنه يخالف قانون الأحزاب الذي يرفض العرقية، كما تبنت بعض الجمعيات الحقوقية هذا المطلب. وفي مقابل ذلك ظهرت تصورات منتقدة لجزء كبير من هذه المواقف متهمة إياها بإعادة إنتاج خطاب طائفي وعرقي وإقصائي له مخاطر كبرى على الهوية المغربية التي ستصبح بدون خيط ناظم لها ، خاصة وأن جزءا من مطالب الحركات الأمازيغية بين أن الأهداف قد تتعارض مع مابنى عليه المغرب ذاته منذ قرون. فقد تبنت الدولة منذ تسعينيات القرن الماضي  جزءا كبيرا من مطالب الحركة الأمازيغية فخلقت المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية المكلف بإنتاج مختلف الأدوات الكفيلة بتطور اللغة والثقافة الأمازيغيتين، وأقرت اختياره لحرف تيفناغ لكتابتها بديلا عن الحرف العربي كي لا تربط بالعربية، كما تم إدماجها في المنظومة التعليمية، والموافقة على انطلاق قناة ناطقة بالأمازيغية مستهل شهر يناير 2008. وقد أبدت الدولة مرونة كبرى في التعامل مع هذه المطالب، لكن ذلك لم يمنع من ظهور مواقف تعتبر أن كل ذلك يبقى بدون قيمة ما لم تضمن الحماية القانونية للغة والثقافة الأمازيغية بدسترتها من خلال دستور جديد تطالب به الكثير من الجمعيات الأمازيغية، وتدمج ضمنه مطالب أخرى تتعلق بضرورة التنصيص على علمانية الدولة وإدماج الأعراف، غير أن هذه المطالب تعرضت لانتقادات كثيرة تتساءل عن كيفية التنصيص في الدستور على لغة غير موجودة مادامت الأمازيغية أمازيغيات، ومادام  تنميطها وتوحيدها لم يتحققا لحد الآن، مما يعني أن رفع سقف المطالب يهدف إلى إحراج الدولة ،وأنه ليس مطلبا واقعيا.
  لقد اعتبر الكثير من المراقبين أن موضوع اللغة يمكن أن يشكل عائقا أمام كل تنمية بشرية، وكابحا للتحول الديمقراطي ما لم تتم معالجته بطريقة عقلانية وديمقراطية وتوافقية، فقد حاولت الكثير من الحركات الأمازيغية الإيحاء بكون الصراع الجاري يتم بين الإسلاميين والأمازيغيين لجلب اهتمام أكبر بالمطالب ، كما حاولت أن توحي بكونه صراعا بين الأمازيغيين والقوميين. غير أن مثل هذه المواقف لم تكن موضوعية بقدر ما كانت مزيدات سياسية لها مخاطرها الكبيرة التي تهدد مسلسل الانتقال الديمقراطي الذي يعرفه المغرب، لأنها تقود إلى تقسيم المجتمع إلى شيع وطوائف، وتخلق هوة نفسية بين المواطنين، وتؤسس لجيل جديد يقرأ تاريخ المغرب وحاضره قراءة سلبية لاتؤمن بالحق في الاختلاف وتدبيره، كما أن تنفيذ جزء من هذه المطالب يتطلب مالية كبيرة سينم توفيرها على حساب قطاعات تنموية أخرى ، كما أن المنظومة التعليمية أصبحت تعتمد على ثلاثة أحرف تلقن للطفل في سنوات تمدرسه الأولى مما يرهق ذهنه ، إضافة إلى كون التعدد اللغوي قد يعرقل التواصل بين المغاربة الذي سيصبحون في حاجة إلى لغة أخرى تقوم بالوساطة بينهم.
المرصد الديمقراطي، السنة الثالثة، العدد الأول 2008

الديمقراطية ، السلطة والنظام الأبوي في البلدان العربية: حوار حول فكر هشام شرابي

الديمقراطية ، السلطة والنظام الأبوي في البلدان العربية: حوار حول فكر هشام شرابي
   د.عبدالحق لبيض، رئيس المركز المغربي لحوار الثقافات ومراسل مجلة الآداب بالمغرب
   د.جمال بندحمان، عضو الهيئة التنسيقية لشبكة الديمقراطيين في العالم العربي
د.رشيد الإدريسي، عضو مؤسس لشبكة الديمقراطيين في العالم العربي
د.عبد الحق لبيض: هشام شرابي من المفكرين العرب  القلائل الذين قدموا مشروعا فكريا بخصائص ومميزات محددة، كما أنه من المفكرين العرب القلائل الذين خضع فكرهم لمراحل من التطور والنمو،  لكن ضمن وحدة الرؤية والمشروع.وقد ظل هذا الفكر يتفاعل مع السياقات التاريخية، ويتعالق مع ما ينتج من فكر سواء في المشرق العربي أو في مغربه.
  ولمقاربة موضوعية وناجعة  لفكر هشام شرابي، لا بد من قراءته ضمن السياق العام للفكر النقدي، نظرا للتعالق القائم بين تصورات شرابي والعديد من المفكرين العرب.فالمعروف أن الفكر النقدي قد أسس انطلاقته الحقيقية عشية هزيمة حزيران، حيث شكل هذا الحدث مؤشرا عميقا على جملة تحولات مست البنية العميقة للفكر العربي، والتي قادته إلى انتهاج أسلوب المراجعة الذي طال العديد من المسلمات الفكرية السابقة.و قد اعترف هشام شرابي ذاته بتأثير هزيمة حزيران على تحول مسار فكره ،كما أشار بوضوح إلى تقاطع اجتهاداته الفكرية مع العديد من المفكرين الذين ذكرهم بالاسم.ولا  يمكن، في نظري، فهم أبعاد و خصائص ومميزات فكر شرابي إلا من خلال قراءته في تعالقه مع هواجس وأسئلة الفكر النقدي العربي عموما.
د. رشيد الإدريسي:  صحيح أن فكر هشام شرابي ينتمي إلى إطار عام هو الفكر النقدي، إلا أنه كان يتميز ضمن هذا الإطار بخصوصية جعلت فكره متميزا وفريدا ضمن سياق يعج بالأفكار والاجتهادات.ومؤشرات الفكر النقدي، في اعتقادنا، كانت قد بدأت منذ صدمة الحضارة العربية الإسلامية مع الغرب، إبان اجتياح نابليون مصر، فمنذ هذه الفترة كان قد طرح السؤال الحضاري الكبير:" لماذا تقدم غيرنا وتأخرنا نحن". وهو سؤال يحمل بين ثنياه، كما تلاحظون، هواجس الفكر النقدي الذي يضع الذات موضع التساؤل والاختبار والنقد والتحليل.وكل الإنتاجان الفكرية، بعد ذلك، لم تكن سوى التعمق في فهم هذا السؤال الإشكالي، ومحاولة الإجابة عليه من منطلقات مختلفة، وبأدوات إجرائية وتحليلية متنوعة، من أجل الوصول إلى هدف واحد وهو معرفة أسباب تخلفنا عن الركب الحضاري، وتجاوز الغرب لنا بسنوات عديدة في مجال الإبداع والابتكار والإنتاج.وقد رأى تيار أن سبب  تخلفنا يرجع أساسا إلى ابتعادنا عن حقيقة الدين وتعاليمه، وهو التيار السلفي الأصولي، الذي حاول تفسير التخلف من منطلقات ماضوية تبحث عن الخلاص من خيبات الحاضر من خلال الارتكان إلى الماضي الجاهز والمنجز، الذي يقدم  صورة للذات العربية في أزمنة غابرة وقد بدت في أوج تقدمها الحضاري والإنساني.في المقابل، كانت الحركة العلمانية، ممثلة في المفكرين الشاميين، على وجه الخصوص، من ذوي الأصول المسيحية، قد رأت أن إغراق الفكر العربي  في المرجعية الدينية، باعتبارها المعيار الواحد للتفسير وللحكم، ساهم في إيجاد فكر اتسم بالجمود وعدم الإبداع، مما عمق فكر وسلوك التخلف عند الإنسان العربي.
    ولم يكد هشام شرابي يخرج عن نطاق هذا الإطار الفكري، بالرغم من  أنه وجه له مجموعة من الانتقادات، إذ حاول، عبر كل إنتاجاته الفكرية، مقاربة  السؤال الحضاري الإشكالي الذي انطلق منه كل المفكرين العرب، منذ بزوغ عصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر، إلى يومنا هذا، وذلك من خلال اعتماده على رؤية نقدية استفادت من حصيلة التجارب الفكرية السابقة عليها والمعاصرة لها، كما استلهمت بعضا من التجارب الذاتية والشخصية لهشام شرابي ذاته، باعتباره إنسانا فلسطينيا عاش أزمة فلسطين من بداياتها، أي منذ 1948، فأحس بآثار الظلم والقهر والاستعمار فترجم ذلك كله في إطار تصور نظري مزج فيه بين الذاتي والموضوعي.ولعمري فإن هذا المنحى هو ما يميز فكر شرابي، ويجعله ذا نكهة خاصة إذا ما قورن بالإنتاج الفكري العربي لمفكرين آخرين لم يتردد شرابي ذاته من وصفهم بأنهم مفكرون يمارسون"الجدية السخيفة " أو "المعرفة المتعالية".
 إن جدة فكر هشام شرابي قائمة في مدى قدرته على الانطلاق من المجتمع لتحليل ظواهره، والبحث في أسباب التخلف والعجز واللاعقلانية.فإذا كان الجابري قد بحث في تشكلات العقل العربي عن أسباب التخلف، ومحمد أركون راح يختبر مجاهل العقل الإسلامي كاشفا عن مواطن الخلل فيه، محاولا مراجعته في ضوء مستجدات العلوم الإنسانية، وعبد الكبير الخطيبي الذي راهن على شيوع الفكر  الثيولوجي كسبب لحالة التخلف الذي يعيشه الإنسان العربي، فإن هشام شرابي راح يبحث في مفاصل المجتمع وثناياه عن أسباب العقم والتخلف والتجمد طارحا كمقدمة لتحليل حالة التخلف المجتمعي وضعية المرأة باعتبارها معيارا لمدى عمق التخلف والتسلط والقهر الذي يرزح تحته الإنسان العربي، ومفتاحا، في الآن ذاته لعملية التغيير الحقيقية في المجتمع.وبدون إحداث تحول جذري في واقع المرأة العربية، وبدون تحقيق مبدأي العدل والمساواة تجاه هذا الكائن الرئيسي في تشكيل البناء الاجتماعي لأية أمة، لن يتحقق أي تغيير حقيقي.ولإحداث هذا التغيير لا بد من تحقق مجموعة من الشروط التي  تبدأ من الفرد وتنتهي عند الجماعة مشخصة في المؤسسات باختلاف أشكالها ووظائفها، وبالدولة وأجهزتها.لقد أدرك هشام شرابي، بحس المفكر المنغرس في عمق مجتمعه، أن لا تغيير بدون إصلاح المجتمع وتخليصه من سلطة الفكر الأبوي والعجز و"ثقافة العقل المغلق".وأول ما يجب عمله في هذا الإطار، هو المبادرة إلى تحرير المرأة من القيود التي تكبل إرادتها وتعيق مشاركتها الحقيقية والفعالة في بناء المجتمع.
د.جمال بندحمان: قبل الخوض في الحديث عن بعض مميزات وخصائص فكر الراحل هشام شرابي، لابد من التعقيب على مقدمة الأستاذ لبيض، والتي تحاول أن تحقب بداية الفكر النقدي العربي في المرحلة التاريخية التي تلت هزيمة 1967.وإن كنت لا أجادل في تنامي الوعي النقدي في الفكر العربي، في هذه الفترة، إلا أني لا أتفق على أن الفكر النقدي لم يشهد بداياته إلا في هذه الفترة التاريخية.ذلك أن بوادر الفكر النقدي العربي كانت قد ظهرت قبل هذه الفترة بسنوات، وتكفي الإشارة هنا إلى رواية الكاتب المغربي باللغة الفرنسية إدريس الشريبي "الماضي البسيط"LE PASSE SIMPLE  في سنوات الخمسينات من القرن الفارط، حيث شكلت هذه الرواية عملا إبداعيا إشكاليا، في لحظتها، لما أحدثه من رجة فكرية عنيفة داخل المجتمع المغربي بسبب انتقادها اللاذع لطبيعة العلاقات السائدة فيه.وهي العلاقات التي نجد هشام شرابي ينتقدها ويدعو إلى تغييرها.
  أما بخصوص المسار الفكري للمفكر العربي هشام شرابي، فإنه يمكننا أن نؤرخ لتحول عميق فيه بفعل هزيمة 1967.  وهو ذاته كان  لا يني  يشير إلى قوة التأثير الذي مارسته على مسار فكره هزيمة حزيران 1967. يقول هشام شرابي في هذا الإطار:" شدة الصدمة قوت فينا الوعي وأخذت تعمقه يوما بعد يوم.من هنا كانت ثورية انكسار سنة 1967. " مقدمات لدراسة المجتمع العربي. هذا الوعي بصدمة الهزيمة هو الذي سيجعل من فكر شرابي فكر هزيمة،  بمعنى أن ما سيؤطر هذا الفكر ويوجهه هو هذا الإحساس بصدمة الهزيمة.فشرابي سيكون أمام منعطف فكري حاسم ،"إما الاستسلام لليأس، وهو يساوي الاستسلام للعدو" أو " العودة إلى حالة ما قبل الوعي" والحالتان معا سيرفضهما هشام شرابي، وسيدعو في المقابل إلى مبدأ المراجعة الشاملة: مراجعة الذات ومساءلتها والبحث فيها عن أسباب الهزيمة. وفي هذا الإطار تبدو قيمة المزج بين الذاتي والموضوعي في فكر هشام شرابي، كما أشار إلى ذلك الأخ رشيد.إن الوعي بالهزيمة ليس مجرد وعي فكري أو  نظري، وإنما هو إحساس شخصي ناتج  عن واقع تحقق الهزيمة في الممارسة الشخصية للحياة.إن هشام شرابي الذي عاش نكبة 1948، وعاش مرحلة التهجير الأولى،أقدر من غيره من المفكرين على الإحساس بأثر الهزيمة وبأبعادها،ليس فقط على المستوى السياسي والفكري،وإنما على مستوى ما تخلفه من آثار على سلوك الفرد والمجتمع ،وما ينتج عنها من أمراض اجتماعية ليس أقلها الاستسلام والعجز. لقد شكل الخروج القسري من فلسطين عاملا حاسما في توجه شرابي الفكري، كما مثل إعدام الأب الروحي له، الزعيم أنطوان سعادة، عاملا في اختيار مساره الفكري والنظري.وبالرغم من كل التغيرات التي طرأت على مسار هذا الفكر وعلى توجهاته، فإن هشام شرابي ظل رهين هذين العاملين الأساسيين. ففي كل أعماله الفكرية هناك وجود  تجليات لهذين العاملين.لكن عندما أقول بأن منطلق فكر هشام شرابي هو الهزيمة ،فإن ذلك لا يعني البتة أن فكره هو فكر التشاؤم أو الاستسلام .بل، بالعكس، إن مجرد إطلالة سريعة على هذا الفكر تجعلنا نلمس ذلك التفاؤل العميق الذي يوجهه.مسترشدا بمقولة  غرامشي الداعية إلى:"إننا نقبل بتشاؤم العقل دون أن يحطم ذلك تفاؤل إرادتنا".
إذا قارنا بين الجهاز النظري عند هشام شرابي، والأجهزة النظرية لدى العديد من المفكرين العرب الآخرين الذين اشتغلوا بمنظومة الفكر النقدي، أمكننا، ببساطة، إبراز ما يميز فكر شرابي ويجعله علامة مميزة في تاريخ الفكر العربي الحديث.ولعل أهم ما يميزه في اعتقادنا هو الجانب المنهجي. فقد شكلت الزاوية المنهجية في الجهاز النظري لشرابي، والتي ستكون لنا معها وقفة أطول في ما سيأتي من محاور الندوة، عنصرا أساسيا في طريقة  تحليله وتركيبه.فقد عمد شرابي إلى التوليف بين العديد من الأدوات والمفاهيم من حقول معرفية مختلفة، مما أعطى لمنهجه القدرة والقوة  الإجرائية والفعالية.فقد استقى شرابي منهجه التحليلي من نظرية التحليل النفسي ومن بعض تصورات الماركسية حول مفهوم الطبقات الاجتماعية والعلاقات الاقتصادية، وكذا من بعض آراء ماكس فيبر.إضافة إلى تقاطع السيرة الذاتية لهشام شرابي مع كل هذه المفاهيم والآليات المنهجية. واعتمادا على هذا النموذج النظري التوليفي أقدم شرابي على تحليل البنية الكبرى المتحكمة في الذهنية العربية، مركزا على دور المعرفة في إحداث المراجعة اللازمة للمسلمات الذهنية وللسلوكات الشخصية والاجتماعية.ففي الوقت الذي مال فيه العديد من المفكرين العرب إلى التركيز على المنحى السياسي باعتباره العنصر الفعال في عملية التغيير والتحول،ذهب شرابي إلى لفت الانتباه إلى دور الإصلاح المعرفي والاجتماعي باعتباره مفتاح أي إصلاح أو تغيير سواء أكان ذا طبيعة سياسية أم اقتصادية.
د عبد الحق لبيض:  يبقى،في اعتقادي ،أن ما يميز فكر شرابي هو هذا التمازج بين الذاتي والموضوعي، وبين الخاص والعام.وهو التمازج الذي طبع فكره بنوع من البساطة والدقة والوضوح، وجعل منه، حقا، فكرا قريبا من أسئلة الواقع ومن هموم الإنسان العربي.وهو ما يؤكد صحة المقولة القائلة بأن هشام شرابي أنزل الفكر العربي من السماء إلى الأرض.
قد تكون هزيمة حزيران المزلزلة قد أربكت حسابات شرابي،وقد تكون تداعياتها قد دفعته إلى إعادة النظر في جملة مسلمات،لكن للحقيقة يجب القول بأن  المسار الفكري لهشام شرابي قد بدأ من بداياته الأولى فكرا ينزع إلى النقد ويرفض الاستسلام للسائد،لأنه، ببساطة ،وكما يشير إلى ذلك فيصل دراج،امتداد شرعي "للفكر الفلسطيني الذي دعا إلى الحداثة الاجتماعية".فعندما ظهر له ما مدى تقليدية العلاقات الاجتماعية الفلسطينية، راح يبني عليها كل مظاهر التخلف والعجز أمام رد العدوان و الفشل في منع الاحتلال.لقد كانت المرجعية الأساس في فكر هشام شرابي متجسدة في الواقع الاجتماعي الفلسطيني بكل فوضاه وتناقضاته، تلك الفوضى وتلك التناقضات التي ساهمت في تعطيل تحرر الإنسان باعتباره وعيا، و تعطيل تحرر الوطن باعتباره كيانا.إن سؤال حداثة الوعي الاجتماعي سؤال مبكر في فكر شرابي، فجاءت هزيمة حزيران لتعمقه وتقدم الدلائل على نجاعة طرحه، وتدعو، بالتالي، إلى تطهير الوعي والكشف عن الواقع بدل حجبه، وإلى مراجعة الذات.ولم ينتظر شرابي المجتمع ليقوم بهذه المراجعة،بل بادر هو الأول إلى مراجعة مساره الفكري،خاصة عندما راح يعيد قراءة ماركس ليعطي مثالا على ضرورة التخلص من الفكر المسيطر وإعادة النظر في مسلمات الذات وبديهياتها.ولعل أهم درس يمكننا أن نستفيده من قراءة فكر هشام شرابي هو هذا النزوع الدائم نحو إعادة النظر في مسلمات الفكر ومقوماته، وعدم الاستسلام للجمود الفكري ولتعطل الآلة النقدية، وذلك من خلال الاعتماد على فكر المراجعة.وقد رأينا كيف أننا نستطيع أن نؤرخ لمراحل تطور فكر شرابي من خلال محطات المراجعة التي يعلن عنها ذاته جهرا وبدون مواربة.بل نلاحظ كيف أن شرابي يقدم لنا مفاتيح قراءة ونقد مشروعه الفكري.فقد نشأ فكر هشام شرابي،بهذا المعنى، على ضفاف واسعة مأهولة بأسئلة قائمة وأخرى كامنة تنتظر من يميط اللثام عنها ويكشف عن مضمونها.ولعل ما جعل فكر شرابي قابلا دوما للمراجعة أنه لم يطأ عوالم السلطة ولم يقترب منها فتكلسه أو تعطل آلياته.لقد ظل شرابي نموذجا للمثقف الذي يجاهر بالحقيقة في وجه السلطة،دون أن تكون له حسابات تلغي دوره كمثقف باحث، وباستمرار، عن المعرفة والتحرر،بدل المواقع والامتيازات.
  غير أن السؤال الذي يطرح بهذا الصدد هو: هل يمكننا الرهان على التغيير الاجتماعي دون أن نملك منظورا موسعا لمفهوم التغيير الذي يطال مستويات وبنيات أخرى داخل المجتمع؟ ألم يكن رواد الحداثة الغربية أصحاب منظور فكري وفلسفي حول المعرفة ودورها في إحداث التغيير إلى جانب أنهم كانوا أصحاب نظريات في السياسة؟ أليس جون لوك، الكاتب السياسي البارز، صاحب نظريات العقد والحرية، هو نفسه صاحب نظريات في المعرفة، التي هي بدأ العملية العقلية وتجريد العقل من كل أشكال التراث؟قد نعارض فكر اليسار في اعتماده وتركيزه على إصلاح البنى الاقتصادية كمقدمة لإصلاح شامل.وقد نختلف مع العديد من المنظرين الليبراليين في مقولتهم الداعية إلى ضرورة الإصلاح السياسي كأفق لإصلاح شامل.وقد نتفق مع شرابي والعديد من المفكرين العرب في أن إصلاح الوعي وتغيير البنى الاجتماعية مقدمة صحيحة لإحداث تغيير في البنية الذهنية للإنسان العربي، باعتبارها أس  كل إصلاح أو تغيير. لكن ما يثير الانتباه هنا هو: هل يمكن النظر إلى عملية التغيير باعتبارها مجموعة من المراحل  المتقطعة لا يجمعها منظور موحد  ؟ بمعنى آخر:أليست عملية التغيير كلا لا يتجزأ، بحيث لا يستقيم جزء منها إلا بحضور الأقسام الأخرى؟ ألسنا، عندما نجزئ عملية التغيير، نعمل على إسقاطها في نوع من التجريد النظري؟ ومما يشجعنا على هذا الحكم رصيد التجارب المتحققة في بلداننا العربية.ولنأخذ مثالا المغرب.فقد ظهر في المغرب ،ومنذ الخمسينات من القرن الفائت،بوادر فكر تحرري نقدي،وحاول إعادة مراجعة أشكال الوعي القائم وكذا أنماط العلاقات المترتبة عنه.فماذا كانت النتيجة؟ للأسف كانت النتيجة عكسية، فقد استطاعت مؤسسة المخزن ،بعد كل هذه السنوات،أن ترسخ ثقافتها "الأبوية"،وأن تكرس وجودها باعتبارها مصدرا لكل شيء في حياة المواطن،في حين تراجعت كل القوى التي كانت تدعو إلى التغيير،بل إن جزء كبيرا منها التحق للاصطفاف وراء مؤسسة المخزن وإبداء كل مظاهر الطاعة والخنوع لها.نخلص من هذا العرض الموجز إلى أن المخزن المغربي، بحكم ما يمتلك من قدرات وإمكانيات مادية، ومن امتدادات داخل أوساط الشعب عن طريق هرمية مؤسساتية رهيبة، استطاع أن ينجح في تعميق وجوده، وفي ترسيخ قيمه المتمثلة في الخضوع والطاعة والامتثال. فبعد خمسين سنة،التي كنا نحلم فيها بإحداث تغيير جذري،نجد المخزن يتقوى أكثر ويمتد أكثر في العمق الاجتماعي، الذي كان في الأصل ساحة مفتوحة نسبيا لقوى التغيير والإصلاح في حينه.هذا النموذج يؤكد بوضوح أن ثقافة "ثورة النفس الطويل"، التي بشر بها هشام شرابي وجعل منها عنوان المرحلة التاريخية في نضال الشعوب ضد سلطة القهر والإرهاب والظلم قد لا تؤتي المرجو منها، لسبب بسيط هو أن تاريخ تشكل الوعي لا يسير في خط مستقيم، بل تتداخل في صناعته عوامل أخرى قد تمتلك من القوة ومن القدرة ما لا تمتلكه النية الحسنة لأمثال هشام شرابي الحالمين بالتغيير والمراهنين على سلامة سيرورة التاريخ وصفائه.من هذا المنطلق، نرى بضرورة المراهنة على الثورة المتكاملة، تلك الثورة التي تباشر العمل على كافة المستويات والأصعدة. فقد أثبتت الوقائع بأن الإصلاح الاجتماعي والفكري لا يمكن أن يتم إلا بالتفكير في الإصلاح السياسي.وأن ورشات التغيير الكبرى التي يجب أن تفتح اليوم في العالم العربي يجب أن  تؤطر ضمن رؤية متكاملة.فوضعية المرأة لا يمكنها أن تتغير إلا من خلال إدراجها ضمن إصلاح سياسي يوفر لها إمكانية تحقق الإدارة السياسية القادرة على تمثل التغيير والدفع به إلى مستويات أقصى.ولنقل مثل ذلك بخصوص المنظومة التعليمية العربية،التي لن يتم إصلاحها إلا بوجود قرار سياسي مواطن قادر على تحمل مسؤولياته والتضحية من أجل إعادة التفكير في مستقبل الشعوب العربية.فأية محاولة لإصلاح جزئي لمنظومة التعليم العربية تحت إرادة سياسية تسلطية وانتهازية وغير مواطنة لن تحقق أهدافها حتى ولو توفرت لها النيات الحسنة ممثلة في ثلة من المفكرين والخبراء الشرفاء.
نخلص إلى أن الدعوة إلى الحداثة الاجتماعية، والدعوة إلى الثورة المعرفية، كما بشر بهما هشام شرابي، ستظلان  مجرد دعوتين  بدون فعالية إذا هما لم تدخلا ضمن  منظومة كبرى للتغيير:منظومة تسير فيها كل مسارات التغيير في خط واحد ومتوازن.وهكذا يمكن أن تكسب الحداثة الاجتماعية فعاليتها الإجرائية، وأن تؤدي وظيفتها المنوطة بها.
 د.رشيد الإدريسي: أود أن أعود إلى فكرة التعالق بين الخاص والعام في فكر هشام شرابي، لأشير إلى أن شرابي، باعتباره فلسطينيا، كان يعيش أزمة مضاعفة، على عكس المثقفين العرب الآخرين.فبالرغم من أن معظم الدول العربية كانت، إبان فترة تبلور وعي شرابي، تعيش تحت وطأة الاستعمار، بما فيها فلسطين، إلا أن استعمار فلسطين كان استثنائيا، بحيث إنه كان استعمارا دائما.فهناك شعب تم اجتذابه من مناطق متنوعة من العالم وأريد له أن يستوطن أرض فلسطين قهرا.لذلك كانت الأزمة عند شرابي مضاعفة، تنطلق من هذا الخاص الذي كان تعبيرا بليغا عن الوضع العام.لذا، كنا نجد مقولة الاستعمار في مؤلفات شرابي حاضرة بقوة وعلى الدوام.وحال هشام شرابي، تشبه إلى حد بعيد، حال المفكر الجزائري مالك بن نبي، الذي عرفت بلاده كذلك استعمارا مزمنا.فقد طرح هو كذلك  السؤال نفسه الذي طرحه شرابي:لماذا نستعمر؟ وقدم إجابة شرابي عينها تقريبا وهي : لأن في داخلنا قابلية لقبول الاستعمار.وهذه القابلية للاستعمار ردها مالك بن نبي إلى أن هناك إنسانا ما بعد الموحدين تميز بالتخلف وبالتراخي وبالتقاعس وبعدم الحركة.وهذه كلها مؤشرات تسمح بجلب الاستعمار إلى أوطاننا، حسب تعبير مالك بن نبي.ويضيف مالك بن نبي مشيرا إلى أن النظام الذي نعيشه، والذي أدى إلى الاستعمار، هو نظام أبوي متمثلا في الديكتاتورية والتسلط، كما تظهر أعراضه في تغليب الانتماءات الطائفية  والمحلية والقبلية، وكذا في الممارسات الاجتماعية المتجسدة في هيمنة الأب وسلطته، وترتقي إلى درجة أعلى لتصل إلى السياسية فتصبح هي كذلك حياة من أهم خصائصها  الاستبداد، وسيادة الرأي الواحد، والتعصب، وغيرها من الظواهر السلبية الأخرى، والتي سنرى هشام شرابي يركز عليها في مجمل إنتاجه الفكرية،و يضيف إليها عنصرا آخر هو عنصر المرأة.وتجدر الإشارة إلى أن استحضار هشام شرابي للمرأة، وعلى عكس الكثير من المفكرين الآخرين، باستثناء قاسم أمين في مرحلة سابقة، يتطلب تفسيرا خاصا مضمونه أن هشام شرابي في موقفه من المرأة يعكس تأثره البالغ بالثقافة الأميركية التي أولت المرأة مكانة خاصة، حتى أنها عرفت بنزعة نسوية بلغت في بعض الحالات إلى  حدود التطرف.
د .عبد الحق لبيض: لكن لفهم فكر هشام شرابي أكثر لا بد من إدراك ومناقشة وتحليل الآلية النظرية التي اعتمدها باعتبارها تقدم لنا إمكانية للحكم على نجاعة التصور النظري العام من عدم نجاعته.
 د. جمال بندحمان: سأحاول تناول هذا العنصر من زاويتين:زاوية وصفية، أحاول فيها أن أقدم تعريفا للإطار النظري العام  لفكر هشام شرابي، وزاوية ثانية، أعرض من خلالها مجموعة ملاحظات بصدد هذا الجهاز النظري.
   من أهم المفاهيم المنهجية التي تحضر بقوة في فكر هشام شرابي نجد مفهوم "الأبوية" باعتباره مفهوما مركزيا يعتمد عليه شرابي كثيرا لتحليل الظواهر الاجتماعية ولإصدار الأحكام حولها. كما يحلل،من خلال هذا المفهوم،علاقة الأنا بالآخر.ويربط شرابي هذا المفهوم المركزي بمفهومين آخرين هما: اللاعقلانية والعجز.
  وما تجدر الإشارة إليه هو أن مفهوم الأبوية ليس مفهوما خاصا بهشام شرابي، بل هو مفهوم له مرجعياته النظرية المعروفة.وقد أشرت في مداخلتي الأولى إلى هذه المرجعية،إذ قلت بأن جزءا منها مستلهم من أطر نظرية التحليل النفسي ومن بعض تصورات ماركس ومن بعض آراء ماكس فيبر.والجمع بين كل هذه الاتجاهات الفكرية هو الذي أمد شرابي بمفهوم "الأبوية".ويعتبر شرابي أن هذا المفهوم له القدرة الإجرائية على فهم وتحليل العلاقات الاجتماعية وأنماط الممارسات السياسية وطبيعة التراتبية السائدة في المجتمع وفي  سلوكات الأفراد وفي الإنتاج الثقافي، كما يؤكد على قدرة هذا المفهوم قادر على تفسير مكامن التخلف ومظاهر اللاعقلانية والعجز في المجتمعات العربية.
 ويمكننا بمناسبة الحديث عن مفهوم الأبوية أن نقدم بصدده مجموعة ملاحظات منهجية وإجرائية:
1/ بالاعتماد على مفهوم الأبوية، كمفهوم مركزي في بناء النظرية النقدية، وبتتبعنا لمسارات التحليل ولنتائجه، نخلص إلى أن شرابي كان يبحث في الكليات وفي المشترك، كما  يعمل على تحديد البنيات العامة المؤطرة للمجتمع العربي. لكن هذا المجتمع،الذي يحلله شرابي،هو في الأصل مجتمعات متعددة ومتنوعة.ومن الصعب أن نعمم الحكم، أو نتائج تحليل ما، على  كل المجتمعات العربية بالدرجة وبالقوة ذاتها.فكل مجتمع من المجتمعات العربية له تمثلاته الخاصة بالأفراد، إذ كيف يتمثل المغربي السلطة مثلا يختلف عن الطريقة التي يتمثل بها اللبناني  أو المصري أو السعودي السلطة.والذي يمكنه أن يؤكد ذلك هي نتائج الدراسات الميدانية للممارسات وللسلوكات اليومية، وليس الأطر النظرية المجردة.وهنا يمكن الإشارة إلى أن النتائج التي توصل إليها شرابي في تحليلاته تبقى مجرد نتائج نظرية تتصف بالعمومية،وتفتقد إلى التحليل التجريبي الذي يعتمد الملاحظة والتجربة لبناء الأحكام.والعمل الفكري الذي قام به شرابي، بالرغم من أنه يهتم بالظواهر الاجتماعية وبالسلوك الاجتماعي، إلا أنه لم يعتمد على التجريب.وهذه نقطة خلل كبرى في البناء الفكري لهشام شرابي.
2/ تحليلات شرابي، بهذا المعنى الذي قدمناه بها،تقترب كثيرا من التصورات الوضعية.صحيح أن الإطار النظري الذي ينطلق منه شرابي ليس وضعيا،لكن النتائج المتوصل إليها وضعية.وكما نعلم ،فإن التصورات الوضعية دائما تتحدث عن قوالب وأنماط قارة وثابتة لبنيات الفكر والمجتمع.وعندما نقول الأبوية ،فإننا نقصد بنية قارة وساكنة بها نحلل كل الظواهر مهما اختلفت أشكالها وأنواعها.  
3/ يخرج شرابي باستنتاجات مهمة من تحليلاته للظواهر الاجتماعية مضمونها أن السلطة التي يمثلها الأب داخل العائلة هي سلطة تجد امتدادها في مؤسسات أخرى:سلطة الزعيم داخل الحزب، سلطة الشيخ في القبيلة، سلطة الحاكم المطلق في الدولة... ويخلص في ختام هذا التحليل إلى لا أن المرأة هي الاختزال السلبي لأبعاد هذه السلطة الأبوية.ويبني على ذلك تصورا آخر مفاده أن قضية المرأة ليست قضية اجتماعية، كما تروج لذلك المنظمات والهيئات الحقوقية النسائية، وإنما هي قضية سياسية ترتبط بالمجتمع.
   ومثل هذا التصور لا يخلو، في نظرنا، من تعميم، مثله في ذلك مثل جميع الإسهامات الفكرية العربية في الموضوع،وهو تعميم الغاية منه جلد الذات.فلنأخذ مثالا للمقارنة.الصين التي كانت قد أصدرت قانونا للزواج في سنة 1950، أعقبته بصدور قانون إلزامي مكمل يلزم المرأة بالإجهاض.وقراءة سريعة لهذين القانونين، نستطيع أن نستنتج مدى الحيف الذي يلحق المرأة فيمس حريتها وحقها في الإنجاب.لكن مع ذلك لا أحد في الصين فسر الأمر أخلاقيا أو أثار حوله إشكالا  اجتماعيا، بل اكتفى الجميع بتفهم الأبعاد الاقتصادية للقانونين وتم الاقتناع بهما.و في أميركا كذلك، ونتيجة لضغط الحركات النسائية تم إصدار حق المرأة في الإجهاض.لكن هذا الحق قد تمت إعادة النظر فيه أيام حكم ريغن دون أن يحدث ذلك ضجة بالقدر الذي يحدثه أي حادث بسيط عندنا قد يتعلق بموضوع المرأة العربية،مما يؤكد أن كل المواقف التي ننتجها بخصوص موضوع المرأة تكون لها أبعاد سياسية أكثر مما هي أبعاد معرفية أو اجتماعية أو اقتصادية.
 4 يقدم لنا الإطار النظري، الذي انطلق منه شرابي، بنيات المجتمع العربي، القائمة على تكتلات العائلة والحزب والنقابة والدولة، باعتبارها بنيات قارة وثابتة تفسر من خلال عنصر واحد هو الأبوية، في حين أن هذه بنيات ذات خصائص مختلفة ومتنوعة وتحتاج إلى مفاهيم متعددة من أجل مقاربتها وتحليلها.وسنفصل الحديث في هذه الخصائص لاحقا إذا اتسع المجال وسمح لنا الوقت.
د .عبد الحق لبيض : أشار الأخ جمال إلى مسألة القوالب والمقولات الجاهزة في فكر هشام شرابي.والحقيقة أن هذه الخاصية لا تخص فكر شرابي وحده ،بل تكاد تطال الإنتاج الفكري العربي برمته تقريبا.  وأعتبر أن هذه الصفة ليست معيبة في الإنتاج الفكري النظري ذاته، وإنما العيب قائم  عندنا في غياب مراكز البحوث ومعاهد الدراسات والأبحاث التي عليها أن تتحمل مسؤولية تحيين هذه القوالب وتجريب هذه الاستنتاجات الفكرية.قد تتفق معي الأخ جمال أن الذي قوى نظريات جون لوك وديكارت وديفيد هيوم  ومونتسكيو ليس أصحابها، وإنما هي مراكز البحوث والمعاهد والجامعات التي تلقفت نتائج هذه النظريات فراحت تؤسس عليها تحليلاتها وأعمالها الميدانية والتجريبية، وهذا ما أكسب هذه النظريات والمقولات الفعالية والإجرائية.فأن ينتج  شرابي والعروي والجابري وهشام جعيط أنماطا ومقولات فكرية عامة فهذا هو المطلوب منهم أساسا. لكن من أجل تحيين هذه الأطر والأنماط والمفاهيم نحن بحاجة إلى وجود مؤسسات مختصة وهو ما نفتقده للأسف، نظرا لغياب الوعي بقيمة البحث العلمي في تحقيق التنمية الشاملة في المجتمعات من جهة ،ومن جهة أخرى وجود إرادة سياسية لا يهمها تطوير هذه الأفكار ولا تحيينها.ثم هل تشك، يا أخ جمال، في أن النظام البطركي نظام سائد وراسخ في بنياتنا الاجتماعية والسياسية والفكرية والاقتصادية، وأنه أحد أسباب تخلفنا ؟ألست تؤمن بأن مركز العجز واللاعقلانية عندنا قائم في طبيعة السلطة القهرية القامعة والمتجسدة في كل بنيات المجتمع، والتي تلغي كل ما عداها وترفض التجديد والتغيير والإبداع؟
د. جمال بندحمان:  بدءا ،أحتفظ بحق تكملة كلامي بخصوص الإطار النظري فقد قاطعتموني،الأخ لبيض بأبوية قاهرة!! لكنني سأبدأ بالتعقيب على ما تفضلتم به من ملاحظات.
 لا أحد يشك في أن المفكرين العرب يشتغلون كأفراد وليس كمؤسسات. وهذا له انعكاساته على مستوى تداول الأفكار وتطويرها وتفعيلها.لكن لا ننسى كذلك أن هذا المثقف يتحمل جزءا من مسؤولية  تراجع واقع البحث العالمي.فمفكرونا لا يهتمون بتأسيس مدارس فكرية لهم تضم باحثين ومفكرين شبابا،ليس لأن يكونوا نسخة منهم وإنما ليطوروا أفكارهم ونظرياتهم .إن ما يهم مفكرينا، صراحة، هو أن يفرضوا أنفسهم، ولو لمدة زمنية محددة وقصيرة، رموزا ثقافية أو شيوخا لطريقة فكرية معينة، إنهم يسعون إلى إبراز أنفسهم في الساحة الثقافية والفكرية كسلطة معرفية تشبه إلى حد كبير السلطة الأبوية للحاكم أو لزعيم الحزب أو النقابة...
  أعود إلى نظرية هشام شرابي حول الأبوية، لأشير إلى أنه بالرغم من نقده لفكر الأبوية فإنه مارسها، حيث كان له أب على المستوى الفكري والسياسي هو أنطوان سعادة. والدليل على ذلك أن هشام شرابي في العديد من أفكاره ومواقفه، خصوصا السياسية منها، لم يكن يفعل سوى تكرار ما قالته هذه الشخصية التاريخية المتميزة.
د .عبد الحق لبيض: هذا فهم عام  نوعا ما لمفهوم "الأبوية"عند هشام شرابي.فالأبوية، عند شرابي، هي نوع من سلطة القهر التي تمارس على الفرد فتحرمه من اكتساب الفكر المستقل والمنفتح. وتتخذ هذه الأبوية أشكالا مختلفة تمتد من العائلة لتصل إلى قمة الدولة.أما العلاقة التي تربط هشام شرابي بأنطوان سعادة فهي علاقة تأثير وتأثر، وهي علاقة طبيعية سادت في كل الثقافات العالمية.ألم يكن مونتسكيو  وديكارت وكانط وهامبرماس وغيرهم  رموزا أثرت في المسار الفكري لمجموعة من المفكرين الذين جاؤوا من بعدهم؟وهل وجدنا يوما من يتحدث عن أبوية أو سلطة هؤلاء.
د جمال بندحمان: نحن لا نقصد أنطوان سعادة كشخص، وإنما نشير إلى المؤسسة الحزبية  المشخصة فيه.
د. عبدالحق لبيض : حتى في هذا الإطار،فإن هشام شرابي استقال من الحزب عندما أحس أن أفكاره قد بدأت تتعارض مع جزء من أفكار وتوجهات هذا الحزب.وهذا مثال يؤكد رفض شرابي لسلطة المؤسسة ويثبت مدى صدقية مبدأ المراجعة الذي حمله كشعار في منظومته الفكرية والنظرية.
د. رشيد الإدريسي: في تدخلي سأحاول أن أزكي ما ذهب إليه جمال بخصوص أبوية  أنطوان سعادة  بالنسبة لهشام شرابي. فالأبوية، كما أشرت الأخ لبيض، هي نوع من الفكر الذي يمنع ويحد من الحريات ويعيق إمكانية التفكير المستقل،كما يحد من العقلانية فيؤدي بالضرورة إلى العجز والتعطل الفكريين.لكن إضافة إلى ذلك ،فإن أهم  مظاهر الأبوية الارتباط بزعيم أو بأب أو بشيخ.وهشام شرابي ،كما نعرف جميعا،كان قد اتخذ له أبا على المستوى الفكري والسياسي لا شك في ذلك.
أعود مرة أخرى إذا سمحتم إلى الإشارة إلى مسألة الإطار النظري لفكر هشام شرابي،لأؤكد بأنه يقدم مقولة عامة ،وهي الأبوية ويعتمد عليها في تحليلات لا تقدم تجارب مرتبطة بقطر معين أو ببيئة محددة،وإنما يتحدث بشكل شامل.فيقدم النظرية ثم يبحث لما يصدقها  على ارض الواقع من خلال تجارب الدول العربية، فهو يتحدث مثلا عن التسلط لكنه يجهل أن للتسلط تمثلاث تختلف من بيئة إلى أخرى.
د.عبد الحق لبيض:   لكن نتائج هذه التمثلات للسلطة واحدة في كل أرجاء الوطن العربي.فالمغربي والسوري والمصري والسوداني عندما يلتقون لا يجدون صعوبة في تعريف هوية التسلط والقهر عندهم لأنها تعتمد على آليات متشابهة.
د.رشيدالإدريسي: بالعكس، آليات التسلط هي التي تختلف من بلد إلى آخر فينتج عنها تعدد في التمثلات والتصورات لهذه السلطة.
د.عبدالحق لبيض: أليست الاستخبارات هي آلية التسلط الموحدة في كل الأقطار العربية من أجل إقامة سلطان التسلط ؟ قدم لي آلية أخرى أنجع اليوم من هذه الآلية قد تتميز بها دولة عربية عن أخرى؟
د.رشيدالإدريسي:  أتحدث هنا عن آلية التسلط في بعدها الثقافي وليس التقني أو الإجرائي. لا أختلف معك في أن الاستخبارات هي الآلية  الإجرائية والعملية لممارسة التسلط وفرض واقع القهر ولإنتاجه كذلك،لكن ،في المقابل، ما يوجه هذه الآلية يقبع داخل الوعي الثقافي لمفهوم السلطة.فمفهوم الأبوية، المقابل لمفهوم التسلط، نجده في المغرب، مثلا، يختلف عنه في سوريا مثلا التي تمتلك تراثا تاريخيا وسياسيا مختلفا.في المغرب، هناك مؤسسة المخزن العريقة.وعندما نتحدث عن المخزن، فإننا نتحدث عن مؤسسة تاريخية ضاربة بالجذور في التاريخ، تطورت ونشأت منذ عهد المرينيين، فأسست لها مفاهيم ثابتة مثل البيعة، التحكيم، الولاء، الخضوع، إمارة المؤمنين... كل هذه المفاهيم تشكل خلفية ثقافية تتحكم في تمثل المغربي لمفهوم التسلط والقهر.وهذه الآلية لا نجدها في بلدان عربية أخرى، والتي نجدها تعتمد على آليات وخلفيات ثقافية أخرى مختلفة.أجل، أعترف بأنها آليات تنتج السلوك ذاته، لكن مع فارق في التمثل، وهو فارق لا يستهان به في  عملية تحليل الظواهر وتفسيرها.
د جمال بندحمان:  ما يجب التأكيد عليه هنا هو أننا نتفق مع هشام شرابي في العديد من الأحكام والمواقف الصادرة عن تحليلاته، بالرغم من انتقادنا لبعض مفاهيمه ولطريقة التحليل التي يقدمها.إن اختلافنا مع شرابي هو اختلاف منهجي.أما فيما يتعلق ببعض مواقفه وأحكامه فلا يسعنا إلا أن نتبناها وندعمها.فمثلا، عندما يقول يتحدث شرابي، مع آخرين مثل سمير أمين ،عن أن الغرب لم يعمل على تفعيل الحداثة في العالم العربي ،بقدرما سعى إلى تكريس البنية الاجتماعية التقليدية ،بما فيها البنية الأبوية.فإننا قد نمثل لهذا الحكم  بما وقع في المغرب إبان فترة الاحتلال.فالاحتلال الفرنسي في المغرب كان قد اشتغل بوثيرتين :الوتيرة الأولى تبنتها الإدارة الاستعمارية الفرنسية في المغرب على المستوى التنظيمي والسياسي والتعليمي،ووتيرة ثانية تركتها هذه الإدارة للمجتمع ،وهي التي تهم غالبية الشعب المغربي وتمثلت أساسا في الحفاظ على البنية التقليدية نفسها متجلية في تكريس واقع التعليم التقليدي الأصيل.وفرنسا التي أصدرت قوانين اعتبرتها ،في حينها حداثية، هي نفسها التي أقرت الظهير البربري ،الذي هو نمط من الأنماط التقليدية.
لكن ما لا يمكننا الاتفاق فيه مع شرابي هي تلك التعميمات الأخرى المرتبطة بالسلوكيات.فنحن نعرف أن هشام شرابي وضع مقدمات يتحدث فيها عن السلوكيات الاجتماعية، وعن السلوك الأبوي فيهان في حين أن هناك وقائع قد تدحض هذا التصور.مثلا، يشير شرابي إلى أن مجال التربية هو مجال ينعدم فيه التفكير العقلاني.وهذا في اعتقادنا، حكم تعميمي.ذلك أن أبسط معطى من التاريخ الاجتماعي في المغرب،مثلا، ينسب هذا الحكم.لنأخذ مثلا مجال الحرف الذي هو مجال عقلاني بامتياز مع أن الحرف تلقن ضمن النظام الأبوي.لنأخذ مثالا آخر من واقع الحياة ولنفترض أن امرأة ما تشتغل  وتعمل في محيط أسري أبوي عاطل، فإنها ستصبح هي السلطة، وبالتالي كيف يستقيم الحديث هنا عن نظرية "ألأبوية" في السلوك المجتمعي.مثل هذه الأمثلة ،في اعتقادنا، هي التي تؤكد على طابع التعميم في تصورات شرابي.
د. عبد الحق لبيض: الأبوية، أو سيادة الفكر الذكوري، كما فهمتها من سياق قراءاتي  لفكر هشام شرابي، ليست مرتبطة بالجنس، بقدر ما هي آلية ثقافية ومعرفية مرادفها الأمثل هو سيادة سلطة الرأي الواحد، وسيادة "ثقافة العقل المغلق" في وجه التساؤل والبحث والفكر المستقل والفكر المستقل".والنتيجة هي فرض"نظام فكر ونظام قيم لا دور لأعضاء المجتمع في تقريره، إنه نظام يتمتع بدينامية مستقلة تمكنه في آن من امتصاص قوى التغيير الاجتماعي الآتية من الخارج، ومن تعزيز قوى الانتماءات الداخلية (العائلية ، العشائرية،الطائفية).والأمثلة  التي أوردها الأخ جمال بندحمان،والتي حاول الاستدلال بها على المنحى العقلاني في بعض الممارسات، لا تعدو أن تكون عقلانية التدبير المادي، أي أنها ممارسات مرتبطة بالجانب التقني للفعل العملي،وليست مرتبطة بمجال العقليات والوعي والثقافة.إن "المعلم" في مجال الحرف هو سلطة أبوية يكرس ثقافة العقل المغلق من خلال ممارسة عملية التلقين التي تتغيا استنساخ "معلم" جديد يكون نسخة طبق الأصل من أستاذه، لتستمر السيرورة بعد ذلك في إطار من تكريس نظام التلقين الذي هو احد أبرز مظاهر الممارسات التقليدية غير العقلانية.أما المثال الآخر للمرأة العاملة في محيط أبوي عاطل، فهو لا يمس جوهر الفكر التقليدي، بقدر ما يقوم على إعادة توزيع الأدوار الاجتماعية.فالمرأة العاملة التي تتمتع بسلطة القوامة التي تمدها بها وضعيتها الاقتصادية قد تمارس هي كذلك الفكر الأبوي في أبشع صوره إذا اعتبرت نفسها مصدر سلطة.وكما تعلمون أن نساء في المجتمع المغربي يكرسن الفكر الأبوي أكثر من الرجال. ولكم في مواقف بعض النساء من مشروع إدماج المرأة في التنمية، ومن إصلاح مدونة الأسرة خير مثال على ذلك ،حيث وجدنا نساء مثقفات يتظاهرن في الشارع ضد منع تعدد الزوجات وضد مشاركة المرأة للرجل حق الولاية على الأسرة، إلى غيرها من المطالب التحررية التي كانت قد حملتها الحركات التحررية النسائية في المغرب.ما قصدته من مداخلتي هو مجرد توضيح لمفهوم الأبوية كما فهمته.
 د.رشيدالإدريسي: ما يجعل فكر هشام شربي حيويا وديناميا أنه يثير كثيرا من النقد حوله، بل هو نفسه يقدم لنا إمكانيات نقده، كما أشار الأخ لبيض في تدخل سابق، مادام أنه فكر إشكالي خلافي ونقدي يجعل من مفهوم المراجعة قوام نظريته وتصوراته.وللحقيقة نقول بان العديد من النقود التي وجهت إلى فكر شرابي قد أغنته وأضافت إليه، ولم تدحضه أو تلغيه.ويمكننا أن  نذكر  كمثال على هذه النقود تلك الإشارات الطفيفة والسريعة التي وضعها المستشرق جاك بيرك في مقدمة الترجمة الفرنسية لكتاب "النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي"والتي يؤاخذ عليه فيها مسألة التعميم وغياب المعطيات الملموسة، التي يمكنها أن تسند وجهة نظره.هذه النقطة ذاتها هي ما أشار إليها الأستاذ عبد الله حمودي في الفصل الأول من كتابه "الشيخ والمريد "، إذ رأى أن منهج شرابي "منهج معمم ممثل" بمعنى ذلك أنه يبني تصورا معينا فيمثل له بواسطة بعض الوقائع المنتقاة بدون تعليل ولا تحليل ،ليسوق بعد ذلك هذه الوقائع في عموميتها دون أن يعمق وصفها في أي مجتمع من المجتمعات العربية.
وقد تظهر ارتجالية شرابي وعدم انسجام مواقفه مع تحليلاته في الكثير من المحطات في فكره.وأكتفي هنا بذكر واحدة من أوضح الهفوات المنهجية وهي تلك المتمثلة في موقفه من اللغة العربية والذي خص له فصلا خاصا في كتابه "النظام الأبوي".إن أول ما يلفت انتباهنا عند الانتهاء من قراءة هذا الفصل هي تلك المفارقة التي تميز شرابي كمفكر.فهو من ناحية يصنف في إطار المفكرين القوميين المعتزين بانتمائهم إلى الأمة العربية تاريخا وحضارة ولغة، لكنه ،من ناحية أخرى عندما يتناول دراسة اللغة العربية ،فإنه يعتمد تحليلا متسرعا.
يذهب هشام شرابي، في هذا الفصل،إلى أن اللغة العربية الفصيحة واللغة العامية ليستا على مستوى واحد .إذ يعتبر العربية الفصيحة لغة  تسعى إلى  ترسيخ الانقسامات الاجتماعية، وطمس الأسس المادية والطبقية للتباين الثقافي، إذ تصبح المعرفة بذلك:" تملكا متميزا وأداة نفوذ، وتصبح المهارة اللغوية مصدر جاه وسلطة.ويستثنى الأميون من المناصب، ويتشكل وعيهم خارج نطاق المؤسسات التربوية العامة ووسائل الإعلام، ويتمحور إدراكهم على الفلكلور والموروث".
إن المسؤول، في رأي هشام شرابي، على هذا الوضع الانقسامي والطبقي الثقافي في العالم العربي، هي اللغة العربية الفصيحة.وبالتالي فإنه يدعو إلى إيجاد لغة بديلة تستطيع أن تدمج هؤلاء المستثنين من الإبداع والمناصب، قصد تحقيق العدل تجاههم.إن مثل هذا الحكم أقل ما يقال عنه انه متسرع ومرتجل ولا ينم عن ملاحظة علمية دقيقة ولا عن تحليل عميق للوضعية اللغوية في العالم العربي.فهو لم يدرس الظاهرة في أبعادها الأخرى،بل حصرها في بعد واحد .وهذا ضد التفكير النسبي الذي يدعو إليه هشام شرابي ذاته.
إن الوضع الانقسامي والطبقي الثقافي، الذي أشار شرابي إلى وجوده في العالم العربي قد نجده حتى داخل المجتمعات التي لا تعيش الثنائية.ذلك أن التمكن من اللغة الواحدة ليس متساويا بين كل المواطنين، بل إنه يختلف من شخص إلى آخر، ومن فئة إلى أخرى.وهذا ما يشير إلى أن الانقسامات في مجتمعاتنا العربية ليس سببه  هيمنة اللغة العربية، أو تكريس واقع الثنائية اللغوية فصحى/عامية، وإنما سببه تخلف المجتمع، و عدم تعميم التعليم، وشيوع آفة الأمية.و هنا تظهر الإرادة السياسية التي لها نية إبقاء الوضع على ما هو عليه.لأن السلطة في العالم العربي تؤمن بأن العامة إذا لم تشغلها شغلتك، وبأن أكثر الوسائل نجاعة هي شغلها بجهلها، وجعلها بالتالي غير قادرة على فهم وتحليل واقعها ونقده.

د.عبد الحق لبيض : إضافة إلى ما قاله الأخ رشيد في مسألة رده على هشام شرابي بخصوص المسألة اللغوية في الوطن العربي ،يجب التأكيد بأنه إذا كانت هناك تراتبية لغوية حقيقية داخل المجتمع فهي  تلك التي تنتجها اللغة الأجنبية وليس اللغة العربية الفصيحة التي تعاني اليوم التهميش والإقصاء في عالمنا العربي.ففي المغرب، مثلا،اللغة العربية ذاتها تعيش تهميشا رهيبا يجعلها في عزلة داخل المجتمع.فاللغة الفرنسية، باعتبارها اللغة الأجنبية الأولى، هي  التي تكرس الانقسامات والترابية داخل المجتمع بفعل ما تخلقه من امتيازات للفئات المفرنسة على حساب الفئات المعربة،تلك الفئات التي تعلمت الفرنسية ففتحت أمامها أبواب الرقي الاجتماعي،في حين ظلت الفئات المعربة على هامش المجتمع تعيش ظروفا قاسية وانسدادا في الأفق.ويبدو لي أن الحكم الذي أطلقه هشام شرابي يخدم، ربما وبدون أن يدري، إيديولوجية المناهضين للغة العربية والداعين للقضاء عليها.
 د.جمال بندحمان: يشير هشام شرابي في معرض حديثه عن البنى داخل المجتمعات العربية إلى وجود بنيتين.هناك البنية الكبرى التي يمثلها المجتمع والاقتصاد والدولة ،وإلى جانبها هناك البنية الصغرى ويمثلها الفرد والعائلة.والفكرة التي يتم الدفاع عنها في هذا التحليل هو أن البنى الكبرى قد تغيرت بتأثير من الحداثة، بمعنى أن المجتمع والدولة والاقتصاد بنيات تأثرت وتغيرت بفعل الحداثة.وهذا الكلام  فيه نظر.لأن السؤال هل حقا تغيرت البنى الكبرى في المجتمعات العربية حتى في أشكالها ؟
د.عبد الحق لبيض : الواقع يؤكد أنها تغيرت بفعل إكراهات أسئلة التحديث وتحت ضغط التفاعل مع الغرب إن سلبا أو إيجابا.فأنت لا تستطيع أن تنكر أن تفاعلات الغرب وأسئلته تؤثر في بنياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وإن من ناحية الشكل لا المضمون.ولكن حتى هذا الشكل يصير مع الوقت منتميا لبنية التفكير عندنا، وتصير مفرداته موجهة لحركية الفعل ولدينامية التفكير.وأعتقد أنه من الصعب أن نلغي كل تأثير ونقول بأن بنياتنا ظلت كامنة أو في حالة ركود تام.وعملية التأثير هذه ليست إرادية، بل هي قسرية. وهذا بالفعل ما أشار إليه شرابي ذاته عندما أكد على أن تاريخنا الحديث بكل سلبياته وإيجابياته هو من صنع الغرب.فما جرى مؤخرا في مصر بمناسبة الانتخابات الرئاسية يؤشر على مظاهر التحول ،وإن بشكل بطيء وغير إيجابي بالقدر المأمول.تلك التحولات التي جعلت الانتخابات العربية تتنازل عن رقمها السحري 99.99%  لنجد الرئيس المصري يفوز فقط بستة ملايين صوتا وهو ما يعادل عدد سكان منطقة شعبية في مصر. وهو الرئيس الأب الذي كان  يلتف حوله كل المصريين مبايعين له لا منتخبين.كذلك فإن ما صاحب  هذه الانتخابات من تحول في الخطاب السياسي والاحتجاجي و من تنامي الوعي الاحتجاجي لدى المواطن المصري من خلال حيوية الشارع السياسي التي شهدتها مرحلة ما قبل الانتخابات، مؤشر قوي على بداية تحول في المقاربة السياسية للمواطن المصري وفي سقف مطالبه الديمقراطية التي راهنت هذه المرة على ممارسة الضغط على قمة الهرم السياسي من أجل تحقيق مجموعة من التنازلات.ولتكن هذه الصراعات شكلية أو وهمية إلا أن ما يهم فيها أنها أدرجت مفردات جديدة في الخطاب السياسي لا يمكن التراجع عنها لأنها أضحت أحد لوازمه الأساسية، وهذه المفردات لا بد أنها أثرت في الوعي السياسي للمواطن المصري ودفعته إلى الانفتاح على أسئلة جديدة لم يكن له عهد بها حتى بدايات القرن الحالي. وفي المغرب،هل كنا، حتى الأمس القريب، نستطيع أن نتخيل أننا باستطاعتنا مناقشة مؤسسة إمارة المؤمنين علنا،أو أن تقترب من السؤال عن الثروة الملكية أو الاقتراب من قدسية أسرار القصر؟ما الذي جعل هذه الأمور قيد المناقشة وإبداء الرأي إن لم تكن التحولات التي مست البنية السياسية والاجتماعية في المغرب؟ صحيح أننا لم نكن نطمح كقوى للتغيير في المغرب إلى مجرد نقاشات شكلية كالتي تجرى اليوم، بل كنا نأمل في تحقيق تغيير جذري في البنيات السياسية والثقافية والاجتماعية يكون بداية حقيقية لإحداث انتقال فعلي نحو دولة الحق والقانون والتعددية،إلا أننا مع ذلك نسجل بإيجابية هذه التحولات، ونعتبر أنها عامل إيجابي في صالح قوى التغيير التي عليها أن تستثمرها في نضالها من أجل تحقيق الانتقال السياسي والاجتماعي والثقافي الحقيقي.إن هذه التحولات، رغم ظواهرها الشكلية، تحقق تراكمات هامة على مستوى الوعي ستؤسس، لا محالة، لما سيعقبها.ونعتقد أنه من الصعب اليوم العودة إلى المربع الأول،وإن كانت الأنظمة العربية تأمل في ذلك يوما وتنتظر أن تهدأ العاصفة!!.
د جمال بندحمان: لكن ،هل هذه الأشكال من الوعي والممارسة توجد ،بالحجم ذاته وبالقوة نفسها ،في كل المجتمعات العربية ؟ وهل توجد ،مثلا، في كل مجتمعات الخليج العربي؟ وهل توجد بالكيفية ذاتها في مجتمعات المغرب العربي؟ الظاهر أن هناك تفاوتا بين الدول العربية في ما يتعلق بحجم التحولات في الوعي السياسي.ومع ذلك، فإن المشكلة،في رأيي ، ليست في تغيير الأشكال ،إذ يمكن أن نتفق مع شرابي على أن الأشكال تغيرت ،لكن ما لا يمكن الاتفاق عليه هو الطابع التعميمي الذي يسم تحليلات واستنتاجات شرابي.إن مشكلة شرابي المنهجية هي في تركيزه على وجود بنية كلية شاملة ثابتة،وهي التي أسميناها من قبل القوالب.في حين أن الإجراء المنهجي الذي كان مطلوبا من شرابي هو تشكيل بنية  علائقية، بمعنى أن لا تؤسس الكليات على  عناصر ثابتة، بل على علاقات دينامية متحركة تتغير بتغير السياقات والمجالات.
 وللإنصاف نؤكد على أن مسألة التعميمات ليست سمة تميز فكر شرابي وحده، وإنما هي تكاد تطال عمل جل مفكرينا.ويكفي أن نشير هنا إلى عبد الكبير الخطيبي الذي يعتبر أن العالم العربي كله مبني على فكر ديني ميتيولوجي، بالرغم من أن هذا الحكم قابل للنقد والتنسيب من خلال التجربة.
   هناك نقطة أخيرة في تحليل هشام شرابي  تحتاج إلى وقفة تأمل وهي المتمثلة في عدم إعطائه الاعتبار لما يمكن أن نسميه بالفرد الإبداعي، هذا الفرد الذي لديه القدرة على إنشاء بنيات لم يوفرها له وسطه الوراثي والاجتماعي.وهذا شيء نجده واردا في كتابات  جان بياجي حول سيرورات النمو الذهني التي تخضع لمراحل معقدة ومركبة.وأركز هنا على كلمة مركبة لأؤكد على أنه من الصعب الحديث عن وجود بنية بسيطة كتلك البنية الذهنية للمجتمع العربي التي يتكلم عنها هشام شرابي بشكل إطلاقي. فالشخصية ليست شيئا بسيطا يمكننا تأطيره داخل بنية ساكنة، لأنها ذاتها بنية معقدة خاضعة لمجموعة من السيرورات المركبة،بحيث يستحيل معها الخروج بمجموعة من الاستنتاجات المنسجمة والمنطقية  كتلك التي تقدمها لنا تحليلات هشام شرابي والعديد من المفكرين العرب.
 د.عبد الحق لبيض: في إطار مبدإ المراجعة الذي يشكل آلية أساسية من آليات الإطار النظري لدى هشام شرابي،نجد أن هناك ارتباطا بينه وبين الوعي: الوعي بالذات ،وهو الذي ناقشناه  في المحور السابق من ندوتنا،والوعي بالآخر المتمثل في الغرب ،وهو الوعي الذي لا يكتمل الوعي الأول بدونه  ولا بدون إكراها ته وتدخلاته.وفي هذا الإطار يقول شرابي:" إن تاريخنا الحديث بكل سلبياته وإيجابياته هو من صنع الغرب بصورة مباشرة وغير مباشرة.الغرب هو الذي جعل الأنا في موقع التبعية وخلق في المجتمعات العربية برجوازية صغيرة"
  فإلى أي مدى فعلا كان الغرب سببا في كل خيباتنا؟ وماذا عن تاريخنا الذي سبق اصطدامنا بالغرب، ألسنا نحن من صنعه؟ أليست الأبوية التقليدية التي انتقدها شرابي سابقة على اجتياح الغرب لأراضينا ولوعينا؟إلى أي حد يمكننا أن نلصق كل فشلنا بالغرب، وننسى أننا نحن من أعطى لهذا الغرب فرصة لاستعمارنا ولزرع ثقافة التبعية في سياساتنا وسلوكاتنا؟
د.رشيدالإدريسي: لا بد من الاعتراف بدءا بأن سؤال العلاقة مع الغرب سؤال معقد وإشكالي، ومن الصعب الإجابة عليه بشكل بسيط لأنه، أساسا، معطى مركب.وهشام شرابي ذاته يشير إلى ذلك أكثر من مرة في مؤلفاته.وقد كانت هذه العلاقة إشكالية نظرا لطبيعة التوتر التي تميزها.وهو توتر يرجع إلى مرحلة ما قبل الإسلام والذي ازداد تعقيدا مع ظهور الإسلام ليصل إلى منتهاه  في المرحلة الاستعمارية.
  قدم شرابي في موضوع العلاقة بالغرب نمذجة لمختلف التصورات التي شيدت من أجل التفكير في هذه العلاقة.التصور الأول هو ما أسماه بالنموذج الأبوي التقليدي الذي اعتمد في التعامل مع الغرب على منطلقات جاهزة.والتصور الثاني هو الذي أطلق عليه اسم  النموذج الأبوي الحديث ،الذي سعى جاهدا إلى التوفيق بين الغرب وبين التراث، أي التوفيق بين التراث والحداثة،بين الماضي والحاضر.وقد حاول هذا التوجه التمثل بالغرب في نواحي عدة.ويقدم شرابي كمثال على هذا الاتجاه تجارب بعض الدول القومية. أما التصور الثالث فهو الذي أسماه شرابي بالوعي النقدي الحديث.وفي هذا التصور يتوقف شرابي عند بعض المفكرين المغاربة الذين عرفوا بانفتاحهم على الغرب، بحكم القرب الجغرافي.وخاصية هذا التصور،في رأي شرابي،أن أصحابه استطاعوا أن يطلعوا على الثقافة الغربية من منابعها، وأن يستفيدوا من مناهجها ومفاهيمها ،وأن يوظفوها في فهم هذا الغرب ذاته وفي انتقاده.فهم غير منبهرين بالغرب ولا مأخوذين بإنجازاته، بل لديهم رؤية نقدية تحكم علاقتهم به.وهذه الرؤية النقدية مفيدة ليس فقط لأجل مراجعة الأنا في علاقتها بالآخر ولكن في مراجعة الأنا لذاتها.
    وبناء على هذه النمذجة، ينتهي شرابي إلى مجموعة استنتاجات نختزلها في ما يلي:
1/ الثقافة الغربية ثقافة عالمية لا يمكن بأي حال تجاهلها أو القفز على معطياتها. ومن ثم ،فالانفتاح عليها ضروري وحيوي بالنسبة للمجتمعات العربية.
2/ علاقة العرب بالغرب علاقة تاريخية واستراتيجية وحيوية  لا بد منها لتحقيق التقدم للعالم العربي وجعله يواكب التقدم الحضاري في جميع المجالات.
3/ ضرورة نقد التراث العربي الإسلامي والإبقاء على الصالح منه ونبذ الجوانب السلبية فيه.
4/ قد تكون الأصولية الإسلامية حققت مواقف هامة في مواجهتها للهجمة الغربية إلا أنها لا تمثل الرد الحاسم على الغرب.
5/ ضرورة وجود خطاب نقدي جديد قائم على الاستفادة من الغرب وعدم الانبهار به في الآن ذاته ومواجهته بالنقد.
ويحدد شرابي مجوعة من الشروط التي يجب تحققها في الخطاب النقدي الجديد نوجزها في العنصرين التاليين:
 1/ التحرر من علاقة التبعية للمدارس الغربية.
 2/ تحديد الإشكالية النابعة من واقعنا العربي وعدم التقوقع داخل التراث وضرورة الانفتاح على الثقافات العالمية بدون مركب نقص.
  لكن ما يلاحظ على  حديث شرابي عن الغرب هو وجود الكثير من التعميم فيه.فالغرب الذي نربط معه علاقات ليس غربا واحدا موحدا ،بل هو غرب رسمي  وغرب القيم، التي انتقدها شرابي نفسه والمتمثلة في الإمبريالية.لكن إلى جانب هذا الغرب المبغوض، هناك غرب محبوب وإيجابي، غرب تفاعلنا معه تفاعلا إيجابيا، إنه غرب الأنوار وغرب المنظمات الحقوقية التي تتبنى قضايانا.لذلك فإن أي حديث عن الغرب لا بد أن يؤطر داخل هذا السياق المركب للوعي بطبيعة الغرب وبماهيته.
د. عبد الحق لبيض :  انتقد هشام شرابي، في معرض حديثه عن العلاقة بين العرب والغرب، الحركة العلمانية والحركة الأصولية الإسلامية واعتبرهما معا لم يوفقا في تقديم إجابة واضحة لمشكلات الهوية والتاريخ والغرب. ودهب إلى التنظير لوجود حركة بديلة تستطيع أن تقدم حلولا واقعية وناجعة لهذه المشكلات المستعصية، وهي الحركة، التي قال عنها بأنها ستكون ذات اتجاه نقدي.غير أننا لا نعثر في كتابات شرابي على ملامح ولا خصوصيات هذه الحركة على مستوى الواقع العربي.علما أن هذه الحركة لن تكون مجرد اجتهادات فردية لمفكرين ومثقفين نقديين،بل إنها حركة اجتماعية ثقافية سياسية تدافع عن مشروع وتكون لها شرعية على مستوى واقع الممارسة اليومية.السؤال هو:من تكون هذه الحركة البديل ؟ هل هي شبيهة بما أسماه الجابري ذات مرة ب"الكتلة التاريخية"، والتي تكون نتاج توافق اجتماعي وسياسي يؤثث لمرحلة انتقال مجتمعي وسياسي وتشارك فيها كل التيارات السياسية والفكرية بما فيها السلطة القائمة؟أم ستولد من رحم الحوار الدائر بين القوميين العلمانيين والإسلاميين الأصوليين؟ أم ستكون وليدة بقايا اليسار الذي يعيد قراءة نفسه ويكيف ذاته مع اشتراطات المرحلة الراهنة؟ أم هي حركة سيكون لأبناء الجاليات العربية في الخارج دور في الدفع بها، خاصة وقد بدأ يتشكل وعي عند أبناء الجيل الثاني والثالث في بلدان المهجر بضرورة مساعدة بلدان الأصل من أجل الخروج من أزماتها؟ أم أن المجتمع المدني الوليد هو الرهان الأكبر على إحداث "الثورة ذات النفس الطويل"التي يدعو إليها شرابي،بحكم اشتغال هذه الإطارات المدنية في العمق الاجتماعي وحملها لمقولات التغيير الاجتماعي والذهني والفكري للإنسان العربي؟ 
يبدو ،حقيقة ،أن هشام شرابي لم يقدم شكل ولا انتماء ولا طبيعة هذه الحركة البديل، مما يجعل تصوره نظريا صرفا لا يرقى إلى مستوى التمثل الواقعي لطبيعة الصراع  داخل المجتمعات العربية التي وحدها يمكن تفرز طبيعة الحركة البديل وصفاتها السياسية والاجتماعية.
 د.رشيدالإدريسي: يعتبر شرابي نموذجي الأبوية:التقليدية والمستحدثة متجاوزين، وأن النموذج النقدي الحديث هو الأمل عنده لإحداث التغيير ذي النفس الطويل.وقد أسند مسؤولية خلق هذا النموذج إلى أولئك الذين كانت لهم الفرصة للإطلاع على ثقافة الغرب وعلى مدارسه وتياراته الفكرية فاستطاعوا أن يؤسسوا رؤية نقدية للذات وللآخر كما يستطيعون أن يخلصوا الذات العربية من التبعية لهذا الغرب.
د عبد الحق لبيض : قد لا نختلف على المستوى النظري مع هشام شرابي ،لكن السؤال عن ماهية هذه الحركة النقدية البديلة وعن مقوماتها يحتاج إلى اختبار الواقع.في هذه النقطة بالذات لا ينفع أن نطلق المقولات التعميمية، بل لا بد من توضيح الرؤية اعتمادا على تحليل تجارب محددة.فأنت مثلا لا تستطيع أن تتحدث عن طبيعة قوى التغيير والإصلاح في السعودية بالمقاييس ذاتها التي تطبقها في حديثك وتحليلك لقوى التغيير في لبنان أو في مصر أو في المغرب.لهذا، فإن مجرد الحديث عن حركة فكر نقدي جديد وتحديد بعض شروطه ومقوماته بشكل مطلق لن يكفي لإيجاد حركة تغيير حقيقية.إن مسار الولادة والنشوء مرتبط،هنا ، بطبيعة وأشكال الصراع داخل كل بلد عربي،بالرغم من الاعتراف بوحدة الأهداف والغايات.و لا أريد أن يفهم من كلامي هذا أني أتناقض مع ما قلته سابقا عن مسألة تمثل السلطة،لأن التمثل شيء وأساليب العمل شيء آخر.
    المصدر: مجلة الآداب البيروتية، ع 53، 2005